الشيخ إبراهيم بدوي
ستر المرأة لمفاتنها منعاً للفتنة وحفاظاً لها من مرضى القلوب عادة قديمة وجدت مع وجود الإنسان، وذلك لأنه يتناسب مع ما جبلت عليه من الحياء والعفة، من هنا كان الحجاب زياً معروفاً لدى المجتمعات القديمة سواء تلك التي دانت بدين سماوي أو تلك التي دانت بغيره، غاية الأمر أنه كان يختلف شكله باختلاف المناطق والعادات والرسوم التي تخضع لها الأزياء بشكل عام. وقد كان الحجاب زمن العبودية رمزاً لحرية المرأة، حيث درجت العادة أن لا تلتزم الإماء به بشكل كامل، وهذا من باب إظهار القيمة العالية للحرائر في مقابل السبايا والإماء، كما هو حال كل غالٍ وثمين، فإن الطبع البشري يميل إلى ستره وإخفائه، ولهذا كانت الملوك محتجبة عن العوام، ولا تظهر أنفسها إلا للخواص الذين يستحقون ذلك.
* معنى الحجاب:
الحجاب في اللغة هو الستر، جاء في لسان العرب: حجب الشيء يحجبه حجباً وحجاباً، وحجَّبه: ستره، وقد احتجب، وتحجب إذا اكتن من وراء الحجاب. وامرأة محجوبة: قد سترت بستر(1). والمراد به في الإسلام خصوص ما يستر مفاتن المرأة ومحاسنها عن غير محارمها وزوجها، وهو يشمل كل ما يستر شيئاً من المحاسن التي يحرم إظهارها، كغطاء الرأس والبرقع والنقاب والعباءة وما شابه ذلك، ولكنه اشتهر إطلاقه في الفترة الأخيرة على خصوص ما يستر الشعر والرأس ستراً كاملاً بحيث لا يظهر منه سوى الوجه.
الحجاب عند الأمم السالفة
عادة احتجاب النساء قديمة جداً، فقد جاء في دائرة المعارف "لاروس" ما خلاصته:
كان من عادة نساء اليونانيين القدماء أن يحجبن وجوههن بطرف مآزرهن أو بحجاب خاص. وكانت الفينيقيات يحتجبن بحجاب أحمر. وقد تكلم عن الحجاب أقدم مؤلفي اليونان، حتى يروى أن "بنيلوب" امرأة الملك "عوليس" ملك جزيرة "إيتاك" كانت تظهر محتجبة. وكانت نساء مدينة "ثيب" يحتجبن بحجاب خاص، وهو عبارة عن غطاء يوضع على الوجه، وله ثقبان أمام العينين لتنظر منهما المرأة. وفي "أسبرطا" كانت الفتيات يظهرن أمام الناس سافرات، ولكنهن متى تزوجن احتجبن عن الأعين... وقد دلت النقوش على أن النساء كن يغطين رؤوسهن، ويكشفن وجوههن فقط، ولكنهن متى خرجن إلى الأسواق أوجب عليهن الاحتجاب سواء كن عذارى أو متزوجات. كان الحجاب موجوداً عند نساء "السيبلتريين" والشعوب النازلة في آسيا الصغرى و"الميديين" والفرس والعرب... الخ"(2).
جاء في دائرة معارف القرن العشرين:
"وكان نساء الرومان مغاليات في الحجاب لدرجة أن القابلة (الداية) كانت لا تخرج من دارها إلا مخفورة ملثمة باعتناء زائد، وعليها رداء طويل يلامس الكعبين، وفوق ذلك عباءة لا تسمح برؤية شكل قوامها"(3).
* الحجاب في الأديان السماوية
لا نقاش في التزام النساء بالحجاب في الأمم التي التزمت بالأديان السماوية المعروفة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وقد كان التزاماً عاماً لدى غالب النساء، وإن كان التزام العفيفات المؤمنات منهن هو القدر المتيقن في المقام.
ففي العهد القديم ورد النص التالي في سفر التكوين، الإصحاح الرابع والعشرين:
... ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل. وقالت للعبد من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا. فقال العبد هو سيدي. فأخذت البرقع وتغطت(4)... وهذا يدل بوضوح على أن المرأة لم تكن تخرج إلا محجبة مبرقعة، وتلتزم بذلك كلما رأت رجلاً أجنبياً عنها، ويؤكد ذلك النصُّ الآخرُ الذي ورد في السفر نفسه الإصحاح الثامن والثلاثين: ... فأُخبرت ثامار وقيل لها هوذا حموك صاعد إلى "تمنة" ليجز غنمه. فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل "عينايم"(5)... وفي الرسالة الأولى التي كتبها بولس إلى أهل "رومية" من "كورنثوس" على يد "فيبي" خادمة كنيسة "كنخريا": ... وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه. إذاً المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها. وإن كان قبيحاً بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغطَّ(6).
وفي مورد آخر:
احكموا في أنفسكم. هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى اللَّه وهي غير مغطاة(7). وكأن هذين النصين يوجبان الحجاب على كل امرأة تظهر الإيمان، ويبينان أن جزاء التي لا تلتزم بذلك أن يقص شعرها. وهذا دليل واضح على أن الحجاب رمز التدين، وهو تعليم إلهي، وليس مجرد زي تعوَّد الناس عليه.
الحجاب عند العرب في الجاهلية
كانت العرب تعتبر الحجاب علامة على علو قدر المرأة ورفعتها، ولذلك كانت الحرائر تلتزم به، وتمتنع عن السفور إلا في موارد خاصة، وقد ورد ذكر الحجاب في الشعر الجاهلي كثيراً، ومن ذلك قول "ثوبة بن الحمير" في معشوقته "ليلى الإخيلية":
فقد رابني منها الغداة سفورها(8) |
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت |
وكشفت برقعها فأشرق وجهها |
وقال عنترة بن شداد العبسي: |
|
حتى كأن الليل صبحاً مسفرا(9) |
وقال النابغة الذبياني:
فتناولته واتقتنا باليدِ(10) |
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه |
والنصيف هو الخمار الذي يغطي الوجه، وعندما سقط نصيفها حرصت على تغطية وجهها ولو بيدها، ما يعني أنها كانت ترى الالتزام بالستر لازماً لا يمكن لها أن تتخلى عنه.
* الحجاب في الإسلام
وجاء الإسلام ليصحح الخطأ الذي كان يمارس من قبل بعض النساء حيث كان الالتزام بالحجاب في كثير من الموارد ناقصاً، حيث كانت بعضهن تتعمد إظهار بعض الزينة من الخلخال والأساور فضلاً عن الرقبة والصدر والآذان.
قال الزمخشري:
كانت جيوبهن واسعة، تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن، فتبقى مكشوفة... وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال(11). وعند نزول آية الحجاب والأمر بارتداء الجلابيب التزمت نساء الأنصار بذلك، ولبست الألبسة الفضفاضة التي تستر كامل البدن، وهي المعروفة اليوم بالعباءة، وكان لونها أسود أيضاً، كما يلبس غالب النساء المتدينات اليوم.
قالت عائشة تصف نساء الأنصار عندما نزلت سورة النور:
"وإني واللَّه ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب اللَّه ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور "وليضربن بخمرهن على جيوبهن"، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته وعلى ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل اللَّه في كتابه، فأصبحن وراء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، للصبح معتجرات كأن على رؤسهن الغربان"(12). إذن الحجاب ليس عادة إسلامية فقط بل هو أمر دأبت عليه الأمم والأديان كلها، وإن كان أعداء الأديان والقيم يريدون إظهاره كأمر إسلامي مقدمة لإسقاطه، عداءً للإسلام ولكل أمر إسلامي.
(1) لسان العرب، ابن منظور، ج1، ص298.
(2) وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، بيروت، 1971، ج3، ص335.
(3) المصدر السابق.
(4) العهد القديم، ج1، سفر التكوين، إصحاح 24، آية 65 و66.
(5) العهد القديم، سفر التكوين، إصحاح 38، الآيتان 14 و15.
(6) العهد الجديد، ص268.
(7) المصدر السابق، ص280.
(8) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق المخزومي، والسامرائي، دار الهجرة، ط1409 -2، ج2، ص298.
(9) الكاتب، سيف الدين وأحمد عصام، شرح ديوان عنترة بن شداد، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1981، ص110.
(10) الهروي، القاسم بن سلام، غريب الحديث، تحقيق محمد عبد المعيد خان، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396ه، ط1، ج2، ص166.
(11) الزمخشري، جار اللَّه، الكشاف، ج3، ص62.
(12) الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج5، ص42.