حسن زعرور
الزمان: تموز 1948، المكان: قرية عربية صغيرة تدعى "بيت جيز" وتقع على طريق القدس تل أبيب، وقف سكانها القلائل ينظرون بدهشة إلى مجموعة من ستة رجال يقودون أسيراً ثم يُحْكِمون وثاقه إلى شجرة زيتون، كان بعضهم يرتدي ملابس عسكرية بريطانية كاكيَّة اللون، وآخرون ملابس رياضية، كما كان بينهم من يعتمر قلنسوة فراء روسية، مزيج متنافر من دول شتى، وأما الأسير فلم يكن إلا الكابتن اليهودي "مئير توربيانسكي" المتهم بالتعامل مع "العدو العربي". عندما نفذت فرقة الاعدام اليهودية مهمتها، خيَّم صمت موحش على المشاهدين والمنفذين معاً، وتم رسم خطوط الصراع المستقبلي.
* ذاتية الحقد على الآخرين
لم يكن عقاب "مئير" عرضياً أو حالة مرحلية، لقد سبقه ولحق به بعد ذلك كثيرون في أتون الصراع، وكان خطأ هؤلاء أنهم صدّقوا أن هناك فكراً حضارياً يهودياً، وأن هناك إمكانية لإقامة تواصلٍ ما مع العرب، لم تكن قد أقرَّته الدولة العبرية الجديدة في تلك المرحلة ولم يكن يخدم مصالحها حينها باعتباره "ضرر يلحق بالوجود اليهودي"(1)، لأن مرحلة الصراع مع العرب كانت تتطلب إعادة تفعيل الحقد والعداء، بهدف تجميع اليهود حول الدولة من جهة، ومنع سدّ "الفجوة" القائمة بين اليهود والأمم الأخرى منعاً للذوبان. مسيرة دائمة ذكرها التاريخ في أكثر من زمن وبلد، فاليهودي ولو تنصّر يبقى يهودياً، ولو كان شيوعياً أو ملحداً يظل يهودياً، أياً تكن حركة العصر حوله، والتطور الشكلي التعاملي إن هو إلا مرحلة التقاط الأنفاس لديه وضرورة مفروضة "لذر الرماد في العيون" وإبعاد الخطر، تلك هي مواصفات الشخصية اليهودية كما عرفها التاريخ "مكر وخديعة، غش وشراء ضمائر، طمع وجشع ومرابات وحقد ولؤم وخبث وكره للأمم الأخرى"(2)، فهل تغيّر ذلك في اليهودية الحديثة؟
حظيت الشخصية اليهودية بالكثير من الدراسات الحافلة بالاجتهاد، تحدث معظمها عن عصرنة الوجود اليهودي معتبراً أن حركة التطور الحضاري للأمم لا بد أن ينعكس على اليهود أيضاً، غير أن ما ينطبق على الأمم لا ينطبق على اليهودية، لأن الأمم خاضت في مراحل تطورها أنماطاً حضارية متتالية أسهمت في إقامة نظم فيها، فيما أن الوجود اليهودي خاض حضارة لفظية مظهرية من دون تخليه عن النظم القديمة التي يقوم عليها وجوده ودون تعديل في الشخصية العدائية أو البعد عن المجتمعات الأخرى، حتى أن دولته فوق التراب الفلسطيني تحولت إلى "غيتو" كبير. "إن إسرائيل اليوم يتشابك فيها الماضي مع الحاضر أكان تاريخاً أم رمزاً، وعدم سبرغور الماضي فيها هو كمن يحاول القيام بتشخيص طبي من دون معرفة المرض"(3).
* جينية العداء الموروثة
ولا بد لنا أن ننظر بامعان إلى "جينية العداء" التي تولد مع الفرد اليهودي بحيث نجد أنماطاً تعاملية ذات دلالات واضحة كما يقول الباحث الإسرائيلي جولدمان، فتمني الموت للآخرين، والتخريب والسرقة وحب الامتلاك تولد مع الطفل اليهودي، عداءً نميّ مع الزمن تحت حجة الخوف من الآخرين، لم يستطع اليهودي معه التكيف أو الاندماج أو التفاعل مع محيطه، ورغم قيام دولته ذات التفوق العسكري فإن اليهودي لازال يعيش هواجس الرعب ويدفع بذاتيته إلى الحقد والكره على الآخرين، ونمط سلوكه هذا ليس وليد مرحلة الصراع الحالي مع العرب. وإنما هو وليد "جينية" موروثة تسيطر على الحركة الفكرية والمسلكية بحيث يظلّ نمط التعامل اليهودي على وتيرة محددة "نستطيع أن نشم ضبابية الحياة اليهودية التي لم تتغير منذ القدم"(4). كان الفيلسوف الألماني اليهودي "بورين" يمثل قمة العبقرية اليهودية عالمياً، فلما تنصّر تلقى مئات الرسائل من فلاسفة وعلماء ومثقفين يهود حملت عبارة واحدة "كنت بالأمس بطلاً، أما اليوم فلست إلا وغداً" إن مجرد تحول بورين إلى النصرانية جعله في نظر المفكرين اليهود وغداً، وهو دليل على عمق التأثيرات التي تقوم عليها الوجودية اليهودية، وعدم خضوعها لحركة الوعي أو التطور حولها، والوجودية هذه تقوم على مبدأين متلازمين هما العنصرية أي التعصب للعرق اليهودي والتعصب من جهة أخرى للدين الذي هو مجموعة من الطقوس العرقية أيضاً...
إن مقياس الحضارات هو ناتج ما حققته بين الولادة والموت، والشعب اليهودي لم يستطع بناء حضارة فعلية حتى اليوم بل أعاد الحضارة قروناً إلى الوراء، إلى أعصر جلعاد بهدف خلق تكوين يهودي موحد يستعمل القوة والمكر والخديعة كما كان في السابق لأنه غير قادر على تكوين حضارة جديدة في ظلّ العدوانية التي تأصلت في شعبه، لقد تبنى أبناء اليهود الجدد أسماء مثل أون (وتعني القوة) وأوز (وتعني الشجاعة) وبن غوريون (وتعني شبل الأسد) كما يدرس الأطفال اليهود منذ نعومة أظفارهم مناهج تعليمية عدوانية منها "رحلات على خطى المقاتلين" في إعداد سيكولوجي، وفي سن السادسة عشرة يلتحق الشاب "بالغادنا" أو فوج الشبيبة لتدريبه على القتل، وبعد سنتين يتوقف إجبارياً عن دروسه ولو كانت جامعية ليلتحق لثلاث سنوات بالتساحال(5)، إن تعليم القتل يمنع عن إسرائيل الزوال وهو شعار مرفوع منذ أيام يوشع بحسب التوراة الحالية وحتى شارون: "من يقف ليقتلك إنهض لقتله قبله" أي اقتل قبل أن تقتل هكذا أمر التوراة وعلى ذلك "يجب تربية الإنسان اليهودي"(6). إن قتل العرب أو الآخرين ليست مشكلة ضميرية في الشخصية اليهودية لأنه أشبه "بقتل ذبابة"(7) كما يقول موشيه دايان. واليهودي يؤمن بأنه الوحيد المؤهل للحياة وأما الباقون فلا بد أن يقتلوا بطريقة أو بأخرى كما يقول "سيمون بن يوهاي" في كتابه "أفضل الأمميين (أي غير اليهود) يستحق القتل" إن التبريرات على قتل الفلسطينيين بدم بارد ما هي إلا تبريرات، واليهود يكررونها يومياً ثم يخلقون المبررات لغيرهم، لأنهم وفي العمق يقتلون عن قناعة وإيمان بفعلتهم ولو كان لديهم حسّ من ضمير أو وازع إنساني كما يدّعي البعض لإضفاء صورة حضارية عليهم، لأوقفوا عمليات القتل هذه، ولكن العكس هو الصحيح، فالذات اليهودية لا تعرف أنماط الشفقة والمحبة والرحمة كالشعوب المتحضرة، والمثاليات المذكورة في التلمود(8) ليست إلا ملهاة للاخرين، وإن الوجود اليهودي يعتمد على الدم وليس على السلام.
الأمثلة كثيرة على التصاق الوجود اليهودي بانعزاليته وموروثاته عبر الأجيال وعدم تخليه عن حقده الموروث. "إذا كان سداد الخطيئة ينبغي أن يقاس بدرجات العنف التي أذنب بها المذنب في حق النور الذي منحه اللَّه إياه فإن اليهود لا عذر لهم"(9) ؟
(1) موريس لازرون 1952 أخبار المجلس.
(2) قاموس أوكسفورد، ص21.
(3) الإسرائيليون الجدد ص19، يوسي ميلمان.
(4) اليهودي اللايهودي ص29، إسحاق دويتشر.
(5) تساحال جيش الدفاع الإسرائيلي.
(6) بن غوريون.
(7) تساحال، ص92.
(8) اليهودي اللايهودي، ص29.
(9) انولد توينبي ضد إسرائيل، ص40.