الشيخ عمار حمادة
ورد في قصص الأنبياء عليهم السلام(1) أنَّ بني إسرائيل قارفوا المعاصي بعد موسى عليه السلام، فأرسل اللَّه النبي أرميا عليه السلام من أجل هدايتهم، فكان يأمرهم بالخير فلا يطيعونه، فسلط اللَّه عليهم ملكاً قبطياً، اسمه جالوت، يسومهم سوء المذلة ويستعبدهم ويسبي نساءهم ويدمِّر بيوتهم والأرزاق. عند اشتداد المحنة عليهم فزع نقباؤهم إلى النبي أرميا عليه السلام وطلبوا منه أن يسأل اللَّه أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون تحت رايته ويخرجهم مما هم فيه من ذل وهوان، فدعا ربَّه وجاءه الجواب بأن الملك الذي اختاره اللَّه لهم هو طالوت أحد ولد بنيامين أخي يوسف عليه السلام، ولما لم يكن طالوت لا من بيت النبوة ولد يوسف عليه السلام ولا من بيت الملك ولد لاوي أنكره بنو إسرائيل ورفضوا القتال تحت رايته. أخبرهم النبي أرميا عليه السلام: أن سبب اختيار طالوت كان أهليته للمهمة، إذ أنَّه أعظمهم جسماً وعلماً، فعابوا عليه فقره واستمروا في عنادهم، فردّ عليهم بأن علامة صحة اختياره للمُلك هي بأن يعيد اللَّه لبني إسرائيل التابوت الذي كانوا يتبركون به لاحتوائه على ألواح موسى عليه السلام ودرعه وكان اللَّه قد رفعه من بينهم لاستخفافهم به إذا رضوا به ملكاً.
رضخ بنو إسرائيل للأمر واجتمعوا مع طالوت، فرد اللَّه التابوت عليهم وغشيتهم بسببه سكينة عارمة، وراحوا يضعونه بينهم وبين الأعداء حين إغارتهم فتخرج منه ريح طيبة تقتل كل من يقترب منهم. بدأ الأعداء، بقيادة جالوت، يعدون العدة لهجوم ساحق على بني إسرائيل، بعد أن أحرزوا عليهم بعض الانتصارات ببركة التابوت، فأوحى اللَّه إلى النبي أرميا عليه السلام، بأن النصر لا يتحقق إلا بقتل جالوت، ولا يقتله إلا رجل من ولد لاوي. فأرسل خلف آشي أحد أحفاد لاوي، وطلب منه إحضار جميع ولده، فأحضرهم جميعاً إلا داود لصغره، ولأنَّه كان مشغولاً برعي الغنم. ولدى وصولهم صار يلبسهم الدرع الواحد بعد الآخر، فكان الدرع يقصر على البعض ويطول على البعض الآخر، فسأله:
هل خلفت من وُلْدك أحداً؟ قال: نعم، صغيرهم داود، تركته يرعى الغنم. فقال له: أحضره للتو. أقبل داود يحمل مقلاعاً وحجارة، ألبسه طالوت الدرع فاستوى عليه، فعقد لواء الحرب وسار بالجنود لقتال جالوت، قبل أن يصل بجيشه الجرار إلى بلادهم. لدى مسير الجيش، الذي أصبح منهكاً وعطشانَ، وصلوا إلى نهر عذب الماء، ولو ترك طالوت العسكر لهجم بعشوائية ولَعبّ الماء عبّاً ولَضعُفَ عن مواصلة المسير والقتال. فأمرهم بأن يغترف كلٌ بيده غرفة واحدة ويشرب ويواصل المسير بطريقة منتظمة تحافظ على تشكيل الجيش واستعداده للمعركة والمسير في كل حين، إذ قد يكون الأعداء كامنين بقرب النهر. ولكن هذا ما لم يحصل، إذ شرب الجميع وامتلأوا من الماء، إلا ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً إلتزموا بأمر طالوت. ولما جاوزوا النهر بعد الشرب، وجدوا جيش الأعداء في المكمن، وكانوا قد امتلأت بطونهم بالماء وأخذ منهم التعبُ مأخذه، فبدأوا بالصياح: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فلنهرب ونقاتلهم في يوم آخر. حينها انبرى داود بمقلاعه ووقف حذاء جالوت الذي كان يركب فيلاً وعلى رأسه تاج فيه ياقوتة عظيمة، رماها فصكها وانغرست في رأسه فوقع على الأرض ميتاً. وحين قتل داودُ جالوتَ انهزم جيشه فأعمل جيش طالوت الضرب فيه، حتى فرَّقه وانتصر بنو إسرائيل على أعدائهم، ليرتاحوا أمداً طويلاً، وليعيشوا في كنف الانتصار بعزة وأمن كبيرين. روى القرآن الكريم قصة انتصار بني إسرائيل هذه في سورة البقرة الآيات من 245 حتى 250 بشكل شبه تفصيلي مبيناً عوامل النصر والهزيمة بشكل عام.
* تفسير الآيات:
يشير العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان إلى السياق العام لهذه الآيات قائلاً(2): "إنَّ بني إسرائيل، وهم أصحاب القصة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمول والكسل والتواني، فلما قاموا للَّه وقاتلوا في سبيل اللَّه واستظهروا بكلمة الحق، وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولَّى أكثرهم عند إنجاز القتال أولاً، وبالاعتراض على طالوت ثانياً، وبالشرب من النهر ثالثاً، وبقولهم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده رابعاً، نصرهم اللَّه على عدوهم فهزموهم بإذن اللَّه، وقتل داود جالوت، واستقر الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوتهم. ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الإيمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهو قوله: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 250). وهكذا معظم التفاسير دارت في تفسير هذه الآيات مدار بيان عوامل الهزيمة والنصر، من خلال قصة طالوت وجالوت وداود عليه السلام. وبشيء من التحليل لهذه القصة، نستطيع أن نعرض لنقاط تمثِّل الاستفادة العميقة لعوامل الهزيمة والنصر التي تعيشها الأمم عبر التاريخ:
* عوامل هزيمة الأمة:
1 - الإبتلاء بالمعاصي والمفاسد الخلقية والاجتماعية.
2 - الاستهانة بالرموز المتعلقة بتاريخ الأمة والمجتمع لا سيما المقدس منها.
3 - ترك المقاومة والنضال بوجه المعتدين.
4 - عصيان أوامر القادة، لا سيما القادة الإلهيين كالأنبياء عليهم السلام.
5 - الاختيار السيئ للقادة، أو رفض القادة الحقيقيين لأسباب واهية.
* عوامل انتصار الأمة:
1 - اللجوء إلى اللَّه عند اشتداد المحن (عبر الأنبياء عليهم السلام مثلاً).
2 - اختيار القادة بمعايير سامية ودقيقة.
3 - طاعة القادة والعمل بمقرراتهم، لا سيما القادة الإلهيين كالأنبياء عليهم السلام.
4 - احترام الرموز، لا سيما المقدسات.
5 - المبادرة إلى المقاومة والقيام بكل ما من شأنه الإيصال إلى الانتصار.
6 - الدعاء "بالصبر والثبات" وطلب النصر من اللَّه.
وهكذا، فإنَّ كلَّ أمة وقعت في حالة هوان وذلة ما عليها إلا التخلي عن عوامل الذلة والمبادرة إلى تحقيق عوامل الانتصار، لتجد نفسها منتقلةً من حال سيئة إلى حالٍ أفضل، وإنما هذا تطبيق للقاعدة القرآنية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
* الاستفادة المعاصرة من القصة:
وهكذا في عصرنا الحاضر، إذا أمعنّا النظر في حال الأمة الإسلامية في فترة ما قبل الإمام الخميني قدس سره، فإننا نجدها متقمصة لعوامل الهزيمة، فكانت الأعداء تتكالب عليها وتنهب ثرواتها وتحتل أجزاءاً كبيرةً منها، بل كانت كل بلاد المسلمين تحت أيدي المستعمرين. أمَّا مع مجيء الإمام قدس سره وبعدما عمل على إعادة القرآن إلى متن الحياة، وعلى إحياء المبادئ الإسلامية الأساسية المتمثلة بالقيام للَّه وتربية النفس وامتلاك الوعي السياسي وتطبيق أحكام اللَّه والتمهيد لصاحب العصر والزمان، ومن ثمة قيامه بإثارة مسألة القدس كقضية مركزية للأمة الإسلامية يجب أن يتوحد حولها المسلمون، إلى أن رأت فيه الأمة قائداً إلهياً ملهماً ثم سارت في خط طاعته حتى الشهادة، رأينا أنَّ الأمة بدأت السير في طريق العزة والانتصار. وأما تجربة لبنان، فإنَّها بعد تجربة إيران المثال الأنصع على أن الذي يحقق عوامل النصر كما بينها القرآن فإنَّه منتصر لا محالة وإن كبرت التضحيات وتراكمت المعوقات. فلبنان الذي كان يتباهى بضعفه أصبح مع المقاومة الجهادية رقماً صعباً في المنطقة، وما ذلك إلا لأنَّه عند اشتداد المحنة لجأ إلى الإمام الخميني قدس سره كقائد إلهي، والتزم بطاعته على أساس العلم والجهاد والتضحية، فتمخضت صفوفه عن شخصيتين قلَّ نظيرهما، الشهيد السيد عباس الموسوي وسماحة السيد حسن نصر اللَّه، وأعاد القدسية إلى قضية القدس بعدما لعبت بمسار نضالها الأهواء، ومن ثم عمل على اكتساب كل مقومات المنعة والصمود، من خلال الاستعداد الدائم للمقاومة والتطوير الدائم لإمكانياتها. وها هي الآن تلهج بالدعاء وهي تنتظر النصر الآتي لا محالة ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
(1) قصص الأنبياء للجزائري، ص366.
(2) الميزان، ج2، ص283.