مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

استقلال الشخصية وعدم التبعيَّة لأحد في غير طاعة اللَّه تعالى‏

د. علي الحاج حسن(*)

 



لا بد عند مقاربة موضوع الاستقلال في الشخصية، من الوقوف بشكل دقيق على المكونات الأساسية والحقيقية للشخصية الإنسانية، مما يؤدي إلى معرفة دقيقة بتفاصيل مكوناتها، ويساهم في الاستقلال وعدم التبعية. وهذا بدوره يدعونا إلى البحث بشكل مفصل، عن كل الأمور والمسائل التي تنفي استقلال الشخصية.

* ما هي الشخصية؟
أما ما هي الشخصية وما المراد من امتلاك الإنسان على وجه العموم شخصية خاصة؟ هنا نقول إن الشخصية هي مجموعة الصفات الخاصة بكل فرد، والتي تعين له مسيرته في المجال الحياتي والعلاقات العامة والتوافقات الاجتماعية. وعليه، فكل فرد يجب أن يمتلك مجموعة من الأحوال والصفات، التي تعد بمثابة الأركان الأساسية في قيام شخصيته. ولمزيد من التوضيح، نقول إن الإنسان مركب من أمور مادية (أي الجسم المادي)، ومن أمور غير مادية كالنفس أو الروح أو العقل (على اختلاف الاصطلاحات والإطلاقات). وإن ما يحدد طبيعة الشخصية وجوهر وجودها، هو المؤلفات الأساسية للبعد الثاني، أي ذاك البعد الذي يكون بمثابة الحاكم والمدبر والمدير للجانب المادي. وبمقدار ما تكون الصفات والأركان الأساسية متوافرة في النفس، فإن هذا سينعكس بلا شك على تصرفات الجوارح والأعضاء الإنسانية.

* مكونات الشخصية
لو دققنا في مكونات الشخصية لوجدناها تتجلى في أمور أهمها:

الفطرة: والفطرة هي ملكة إنسانية داخلية أودعها اللَّه تعالى في كل نفس، تساهم في المعرفة الحقيقية الخالية من الشوائب ومن كل الأمور التي تؤدي إلى الانحراف والانصياع للأفكار والآراء والعقائد والتقاليد التي تتشكل نتيجة ظروف ومقومات خاصة. وبعبارة أخرى، الفطرة ليست من الأمور التي يجب اكتسابها، بل كل المكتسبات تنشأ في ظروف خاصة بها، قد يؤمن بها الشخص نتيجة دليل وحجة فيؤمن بمحتواها، وقد يقبلها نتيجة ما تمليه الأجواء الفكرية المسيطرة على المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، فيكون إيمانه بها إيماناً عن تقليد من دون حجة. ومن هنا، يجري الحديث عن انحراف الفطرة وابتعادها عن الحالة الأولى لها. وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة، فهذا يعني أن الإنسان يجمع في جنباته الملكات الأساسية التي لو نمت وترعرعت في أجواء عادية خالية من الإلقاءات، لوصل الأمر بها إلى السداد والتوفيق.

الاستقلال: إن كل شخصية استجمعت الملكات والصفات الصحيحة والسليمة، لا بد أن تشعر بنوع من الاستقلال بما يعنيه هذا الأمر من عدم الاتباع المطلق، لا بل يمكن القول إن الاستقلال في الشخصية يأتي الحديث عنه في مرتبة متأخرة عن الحديث عن الفطرة، لأن الفطرة هي التي تؤمن الركائز الأساسية، فتؤدي بشكل مباشر إلى الاستقلال. والاستقلال في الشخصية من الأمور التي يجب الوقوف عندها بشكل دقيق، إذ أنها تؤدي إلى نتائج وآثار هامة على مستوى بلورة الاستقلال الحقيقي للشخصية. وأما كيف يحصل الاستقلال لدى الفرد، فإن ذلك يتم بتوافر أمور أهمها: الاستقلال الفكري والعقلي، وهو أول شرط من شروط تحقق الاستقلال. ويقصد به في بداية الأمر الركون إلى نتائج الفطرة السليمة، ومن ثم تغذيتها وتنميتها عبر القضايا ذات الطابع البرهاني والعقلي والأمور المسلمة لدى العقلاء. ومن ثم رفض كل الآراء الباطلة التي ترد عبر التيارات الفكرية غير الأصيلة، على أساس أن الفرد ومن خلال ما اكتسبه من قدرات عبر السلوك العقلي يكون قد وصل إلى مرحلة القدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ وبين الفكر السليم والسقيم. وبعبارة أخرى، لا يتحقق الاستقلال إلا بالمعرفة، والمعرفة وسيلة ترفع الشخص إلى مستوى الإيمان والاعتقاد بما يتلاءم والفطرة السليمة وبما يؤدي إلى إيصال الإنسان إلى النتيجة الصحيحة. ولو أخذنا بين الاعتبار، أن النظام الإلهي المقدم لأجل هداية البشر وإيصالهم إلى النجاة والسعادة، فإن المعرفة التي تتحقق عبره تكون في إطار محاكاة الفطرة وتنميتها وتثبيت أسس الفكر السليم فيها، وتكون المعرفة هذه وسيلة حقيقية في فهم الإنسان لمقتضيات وحيثيات استقلاله. ومن هنا ننتقل إلى المكون والشرط الثاني لاستقلال الشخصية أي التقوى.

التقوى: هي الوسيلة الأساسية التي تساهم في الاستقامة، وتحصل عبر التبصر والمعرفة بالنظام الإلهي، الذي يكون من نتائجه الابتعاد عن المنهيات، والورع عن المحارم، والالتزام بالفطرة الإنسانية التي بني عليها الدين. ومن التقوى، تنبع كل المسائل التي تتجلى فيها الشخصية الحقيقية للأفراد، فالمتقي لا يمكنه أن يكون سيئ العمل والسلوك والفكر، ولا يصبح في يوم من الأيام ملوثاً بالانحرافات والكبائر والرذائل. والأكثر من هذا، أن التقوى هي ملاك ومعيار التفاضل والقرب من الحضرة الإلهية: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13).  أما ماذا يحصل لو وصلنا إلى مرحلة الاستقلال وعدم التبعية؟ وما هي النتيجة التي نحصل عليها فيما لو كنا أتقياء أصحاب فكر وعقل سليم؟ فإننا لو عدنا إلى المنظومة الدينية لطالعتنا عناوين أساسية في هذا الإطار:

أولاً: التعرف على الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه الفرد في مسيرته إلى النجاة، حيث تحصل التأييدات الإلهية وبهذا تكون النجاة.

وثانياً: لا يمكن الوصول إلى الكمال الإنساني، إلا من خلال الاستقلال هذا، إذ أن الاستقلال هذا يحمل في طياته معنى المعرفة الذاتية والضرورية والاطلاع على الحقائق كما هي، ولا بد لمن عرف أن يعمل على أن يصل. أما من كان ديدنه اتباع الغير، فإنه لن يتمكن من تمييز ما هو كمال وما هو دون ذلك، وبالتالي لن يعمل على الوصول إلى أي نوع من أنواع الكمالات البشرية.

ثالثاً: من الآثار الهامة أيضاً في نتائج الاستقلال، هو عزوف الفكر والقلب والجوارح عن كل ما هو عدا الحق، وكل ما هو بعيد عن النظام الإلهي. وهنا يستحضرني قول الإمام الخميني قدس سره: "إن كل الكمالات التي حصلت لدى أولياء اللَّه وأنبيائه، كانت بسبب عزوف القلوب عن غير اللَّه وتعلقها به وحده"(1).

رابعاً: يؤدي الاستقلال إلى الابتعاد عن الذنوب وترك المحرمات، لأنه لا يمكن أن نتصور شخصية بلغت مستوى من العلم والمعرفة والاطلاع، ومن ثم تقترب من الذنوب والمعاصي، إذ يشكل الجهل أهم ركائز وجود الذنوب والإقبال عليها، وهنا يقول الإمام الباقر عليه السلام: "ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب"(2).

وأخيراً، لو عدنا إلى كتاب اللَّه العزيز لطالعتنا آية مباركة تتبين المحظورات الأساسية من اتباع غير سبيل الحق، وتوضح لنا أن الطريق الإلهي هو الطريق السليم الذي يجب أن يتبع. وأما باقي الطرق، فهي تؤدي إلى الضلال. وإذا كان اللَّه تعالى قد بيَّن لنا عبر وحيه الطريق السليم، فإن الاستقلال لا يحصل إلا عبر الالتزام به والسير على مقتضاه، وإلا لزم أن يكون الفرد تابعاً في حياته، يقول اللَّه تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(الأنعام: 153) فعندما ينهانا اللَّه تعالى عن اتباع السبل، فما ذلك إلا لأن السبل المتفرقة لا تقدم إلا ما يبعد الإنسان عن الطريق القويم، وشأنها إلغاء الخلاف والتفرقة والإخلال، بخلاف سبيل اللَّه تعالى المبني على الفطرة والخلقة، و﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم.

الخلاصة: الشخص الذي يعيش في بيئة تحيط بها مختلف الطرق والآراء والأهواء، يمتلك فطرة تحمله على الإيمان بما يوصل إلى السعادة والنجاة والكمال. وأما طريق الكمال هذا، فغير ميسر إلا لمن عرف طريق الحق، واتباع طريق الحق لا يتم من دون استقلال، وللاستقلال بدوره مقومات لا تتأتى من دون المعرفة والتقوى.


(*) مدير مركز الإمام الخميني الثقافي.
(1) الكلمات القصار، ص‏13.
(2) الكافي، ج‏2، ص‏269.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع