أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

أدب ولغة: التشوّق إلى الأماكن المقدّسة في المدائح النبويّة

أحمد لامعي(*)

 



عُرف الحنين والتشوّق إلى الديار، في الشعر العربي، منذ القديم. وتحوّل الحنين إلى الديار بعد الإسلام، ليصبح نوعاً من التشوّق إلى ذكر الأماكن المقدّسة. وهذا التشوّق ترك بصماتٍ ظاهرةً في شعر المديح النبويّ وطبعه بطابع خاص. إذا ما نظرنا نظرةً عابرةً إلى قصائد المديح النبويّ، تستوقفنا صور ومشاهد تأخذ بمجامع قلوبنا وتمضي بنا إلى تلك الأماكن العزيزة على قلوبنا، والذكريات المجيدة من تاريخ الإسلام؛ الّتي أرّخها الشعراء في قصائدهم فنظموا وأجادوا، وكانت أرواحهم معلّقةً بأطياف مكّة والمدينة، وقباب الروضة النبويّة تلوّح لهم عتبى، مضرمةً نار شوقهم وحنينهم إلى الحبيب المصطفى. فهذا الشريف الرضي يتلهّف إلى أرض الحجاز والمدينة بخاصّة، فيقول في قصيدته البائيّة المشهورة:

سَقَى اللهُ المَدِينَةَ مِنْ مَحَلٍ لُبَابَ الْمَاءِ وَالْنُّطف الْعِذَابِ‏

وَجَادَ عَلَى الْبَقِيْعِ وَسَاكِنيهِ رَخيَّ الْذَّيلِ مَلآنَ الْوِطَابِ‏ 

صَلاةُ اللهِ تَخْفِقُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى تِلْكَ المَعَالِمِ وَالْقِبَابِ(1)


ولم يغب عن بال الشعراء الصوفيّين ما لتلك البقاع المقدّسة من مقام رفيع، فسعوا جهدهم ليبقى ذكرها حيّاً في قلوبهم، فامتلأت بها قصائدهم، وأبدوا شغفهم بها، لأنّها مثوى الرسول الّذي يمثِّل قائدهم الديني المباشر:
 

هَلْ نَارُ لَيْلَى بَدَتْ ليْلاً بِذِي سَلَمِ

أَمْ بَارقٌ لاحَ فِي الْزَّوْرَاءِ فَالْعَلَمِ‏

أرْوَاحَ نُعْمَانَ هَلاّ نَسْمَةٌ سَحَراً

وَمَاءَ وَجْرَةَ هَلاَّ نَهْلةٌ بِفَمِ‏

يَا سَائِقَ الْظَّعْنِ يَطْوِي الْبِيْدَ مُعْتَسِفَاً

طَيَّ الْسِّجِلِّ بِذَاتِ الْشِّيحِ مِنْ إضَم‏

نَاشَدْتُكَ اللهَ إنْ جُزْتَ الْعَقِيْقَ ضُحَىً

 فَاقْرَ الْسَّلاَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُحْتَشِم(2)


ولم يكن ذكر الديار المقدّسة عند الصَّرْصَرِيّ مدخلاً إلى الغزل الرمزي فحسب، بل أكثر فيه من المزج بين ذكر هذه الأماكن والوقوف على الطلل وبين الشوق والتغزّل، ونشهد هذا المزج الرائع في قصيدته الّتي يشير فيها إلى تعلّقه بالكعبة الّتي ترخص في هواها الأنفس والدماء:
 

هَلْ مِنْ سَبِيْلِ إِلَى ذَاتِ الْسَّتُوْرِ

وَلَوْ أنَّ الْقَنَا وَالْظُّبَا مِنْ دُوْنِهَا رَصَدُ

فَفِي هَوَاهَا قَلِيْلٌ أنْ يَطُلَّ دَمِي

 وَكَمْ لَهَا مِنْ قَتِيْلٍ مَا لَهُ قَوَدُ(3)


لكنّ ما يشفع لهؤلاء الشعراء أنّ هذا الغزل ظلّ في الإطار الأخلاقي الرفيع، وظلّ محافظاً على إيقاعه الرمزي الّذي يُقصد به التعبير عن مدى الوجد والشوق والحنين إلى الديار المقدّسة.ولقد كان شوق الصَّرْصَرِيّ إلى المدينة المنوّرة ومعاهدها وإلى قبر الرسول كبيراً، فاختلط حنينه بشعور ديني نحو المقدّسات الّتي تضمّ رفات رسول الله، وأخذ يخاطب أولئك الّذين ساروا إلى أرض الحجاز، فيسألهم أن يتوجّهوا إلى قبر الرسول فيقدّموا له تحيّة الصَّرْصَرِيّ، ويسألوه التصدّق والإحسان إلى العبد الفقير الّذي لا يُمكنه أن يفي بدَينه الثقيل للرسول، لإحسانه العظيم إليه، يقول:
 

فَيَا خَيْرَ وَفْدٍ يَمَّمُوْا خَيْرَ مُوْفَدٍ

إِذَا نِلْتُمُ الْبُشْرَى بِتِلْكَ الْمَنَاسِكِ‏

فَحَيُّوْا رَسُوْلَ اللهَ عَنِّي وَسَلِّمُوْا

 سَلامَ مُحِبٍّ صَادِقٍ غَيْرِ آفكِ

وَقُوْلُوْا عُبَيْد الْبَرِّ يَحْيَى بْنَ يُوْسُفٍ

 فَقِيْرٌ إِلَى إِحْسَانِكَ الْمُتَدَارِك

يُقَبِّلُ إِجْلالاً لَكَ الْتَّرْبَ خَاضِعَاً

خُضُوْعَ أَخِي عُسْرٍ لِخَصْمٍ مُمَاحِكِ(4)


ولا يقلّ تشوّق البرعي إلى المدينة جودةً عن تشوّق أضرابه من شعراء المديح النبويّ، فبعد أن يصف شوقه لطيبة مدينة الرسول، يرسل التحيّات إلى مائها وريحها العاطر، ويطلب من صاحبه، الّذي جرّده من خياله، أن يسلّم له على أوفى الورى حسباً وهو الرسول المصطفى، وهذه الأمنية هي أقصى أمانيه ورجائه:
 

وَإنْ وَرَدَت بِهَا مَاء الْعَذيْب فَقُل

 سَقَى الْعذَيْبَ مِنَ الأَمْوَاهِ مَا عَذَبَا

وَخَلّ عَنْهَا إِذَا ارْتَاحَت لِرَائحةٍ

 مِنْ طيْبِ طَيْبَةَ أَوْ رَيّا رِيَاضِ قِبَا

وَإِنْ وَصَلْتَ بِهَا بَابَ الْسَّلامِ فَقُل

 مِنِّي الْسَّلام عَلَى أَوْفَى الْوَرَى حَسبَا(5)


ولقد تأثّر شعراء المديح النبويّ بهذا الاتّجاه، اتّجاه الحنين في الشعر الصوفيّ، كما تأثَّر الصوفيّون بالمدائح النبويّة، فنظم أكثر شعرائنا في عصور الأدب العربي لا سيّما إبّان العصر المملوكي بهذه الطريقة، متأثّرين بالحبّ الصوفي وصادرين في شعرهم عن نفحات صوفيّة. من ذلك ما قاله ابن الوردي لصديقه:
 

أَدِرْ أحَادِيْثَ سَلْعٍ وَالْحِمَى أَدرِ

 وَالْهَجْ بِذِكْرِ اللِّوَى أوْ بَانِهِ الْعَطرِ

وَصِفْ قبَابَ قبَا وَاخْتِمْ بِطَيْبَةَ مَا

 سَامرتَنِي فَهْوَ عِنْدِي أَطْيَبُ الْسَّمَرِ

مَنَازِلٌ كُسِيَتْ بِالْمُصْطَفَى شَرَفَاً

 بِأفْضَلِ الْخَلْقِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ(6)


والمدينة المنوّرة هي دار هجرة الرسول وموطنه وأصحابه وفيها آثاره ومثواه، فهي قبلة الشعراء العاشقين الولهين بذكر النبيّ. فهذا البُوْصِيْرِيّ يذكر وجده وشوقه إليها، ودموع عينيه جارية على خديّه، يذكر ديار الحبيب المصطفى فيقول:
 

أمِنْ تَذَكُّرِ جِيْرَانٍ بِذِي سَلَمٍ مَزَجْتَ

دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ‏

 

أمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ

 وأوْمَضَ البَرْقُ فِي الظلْماءِ مِنْ إضَمِ‏

 

أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ

ما بَيْنَ مُنْسَجِمٍ منهُ ومُضْطَرِمِ(7)

 


ويُظهر الشعراء سبب تعلّقهم بتلك الأرض، إذ كان الشاعر يهواها لأنّها تمثِّل رمز التعلّق بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله، وإنّما المسير إليه لا إليها، وتكبّد العناء والمشقّة في سبيل زيارته العزيزة على قلوبهم، لا لأجل قطع الفيافي والقفار، لذا هو الصبّ المتيّم بذكره، وهذا ما يجعلنا نشبّه هذا الغزل بالغزل العذري العفيف. وفي ذلك يقول ابن جابر:
 

إِلَيْكَ رَسُوْلَ اللهِ جبْنَا الْفَلا وَخْدَا

وَلَوْلاكَ لَمْ نهْوَ الْعَقيْقَ وَلا الْرنْدَا

وَلَوْلا اشْتِيَاقِي أَنْ أَرَاكَ بِمُقْلتِي

 لَمَا كُنْتُ أشْتَاقُ الغويْرَ وَلا نَجْدَا

وَلَوْلا رجَاءُ الْقَلْبِ مِنْ ذَاِكَ الْحمَى لَمَا

 اخْتَرْتُ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وطَنِي بُعْدَا

وَمِنْ أَجْلِكُمْ أَصْبُوْ إذَا هَبَّتِ الصّبا

تَجرُّ ضبَاحَاً فَوْقَ أَرْضِكُمْ بُردَا(8)


أمّا ابن نباتة فلم ينظم في التشوّق للمقدّسات، لكنّه في إحدى مقطوعاته النبويّة يكشف سرّ دائه ودوائه، فهو العليل بفراق تربة أحمد، يسحّ الدمع لذكرها مدراراً، ولا يشفيه من دائه إلاّ لثم تربتها فيقول:
 

مَزَجْتُ بِتَذْكَارِ الْعَقِيْقِ بكَائي

 وَطَارَحْتُ مُعْتلَّ الْنَّسِيْمِ بِدَائِي‏

وَإِنْ حَدَّثَ الْعُذَّالُ عَنِّي بِسَلْوَةٍ

 فَإنِّي وَعُذَّالِي مِنَ الْضُّعَفَاءِ

وَلَيْسَ دَوَائِي غَيْرَ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ

 بِطَيْبَةَ عَالٍ فُوْقَ كُلِّ سَمَاءِ(9)


وهكذا نرى أنّ التشوّق إلى الديار المقدّسة، كان محرّكاً وجدانيّاً قويّاً وباعثاً فعّالاً في نشر ثقافة الالتزام بالإسلام وحبّ الرسول والتعلّق به وذلك بهدف تقوية العامل الروحي لدفع الأمّة دائماً للثورة والنهوض في وجه الأعداء. وقد ساعد هذا النوع من المقدّمات على إظهار العواطف الوجدانيّة الصادقة لشعرائنا وإنتاج صور رائعة من أكثر الصور الإنسانيّة قوّةً في الخيال والمعنى وأصدقها في المشاعر والأحاسيس ودفق العاطفة. وقد برهن شعراء الصوفيّة أنّ الأساليب الّتي اعتمدوها في المديح النبويّ، من الغزل الرمزي والاستغراق في الوجدانيّات، كان لها تأثير واضح على أكثر شعراء المدحة النبويّة، لجهة ترسيخ المفاهيم الفنّيّة الخاصّة بقصائد المديح النبويّ وشدّة التعلّق بالرسول، فساهموا بذلك في رفع مستوى الخطاب الشعري الديني في العصر المملوكي إلى درجات مشرّفة تركت آثارها في تاريخ الأدب العربي على مرّ العصور.


(*) طالب دكتوراه في جامعة القدّيس يوسف
(1) الشريف الرضي، الديوان، ص‏1 91.
(2) البوريني والنابلسي، شرح ديوان ابن الفارض، 2 71.
(3) الصَّرْصريّ، الديوان، ص‏109.
(4) الصَّرْصري، الديوان، ص‏359.
(5) البرعي، الديوان، ص‏79.
(6) ابن الوردي، ص‏301.
(7) البوصيري، الديوان، ص‏420.
(8) النبهاني، المجموعة النبهانية، 2 41 42.
(9) ابن نباتة، الديوان، ص‏14.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع