مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الغيب: المشهد العالمي الراهن‏

الشيخ حسين كوراني‏

 



لدى محاولة رسم ملامح المشهد الراهن في الموقف من الغيب نجد المفارقات التالية:
1 - أن كل الوجود المادي، من إنسان وسائر ما هو طوع يديه أو قابل للتطويع، هو، من حيث مصدر الوجود، نتاج غيبي من وجهة نظر الجميع عملياً وبقطع النظر عما يقال، فالموحد، والمثلث، وغيرهما، من المنتمين إلى دين، لا يصدرون إلا من ذلك.
والمادي بأقسامه ملحداً كان أم شاكاً أم عبثياً، لا يقدم دليلاً يلغي مرجعية الخالق، أو يثبت مرجعية أخرى، مما يعني تعزيز هذه المرجعية، لأن العجز المزمن عبر القرون عن تقديم الدليل، قرينة بل دليل على صحة الدليل المضاد.
"يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" (الروم: 7).
"أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين" (المؤمنون: 35-37).
"بل قالوا مثل ما قال الأولون، قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون، لقد وُعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين" (المؤمنون:81-83).
"بل ادَّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون" (النمل: 66).


2 - أن الغالب في هذا النتاج الغيبي، من حيث بقاؤه والدوام، استمداده الغيب، فإذا استمراره أيضاً كوجوده رهن الغيب.
من يمد الشمس بالتوهج والطاقة؟
ومن يمد الأرض بالماء والهواء؟
ومن ينبت الزرع والغراس والشجر؟ ويدير حركة الفلك والليل والنهار؟
من يرعى نظام بقاء الإنسان ويؤمن حاجاته في بعد الجسد، وعمق الروح؟
من أين جاءت القدرة على التنفس والنطق؟ واليقظة والنوم؟ والحركة والسكون؟
ولماذا يعجز كل البشر عن الحيلولة دون موت فرد واحد، بل عن منع غزو الشيب لشعرة؟
"قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شي‏ء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون" (المؤمنون 84-89).
"هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون" (النحل: 10-13).

وإذا أضفنا أن قانون السببية، أو العلية، يقيني لدى الجميع، تكون صورة ما تقدم أشد وضوحاً.
"أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يُخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم يَنصرون" (الأعراف: 191-192).

3 - أن الغالب على الناس في أربع رياح الأرض، التصريح بالإيمان بالغيب، مع فوارق هائلة ومن الثرى إلى الثريا، في فهم حقيقة هذا الغيب، ومدى عقلانية التعامل معه.

4 - أن فئة من هؤلاء الناس في كل عصر وبلد، يصرحون بعدم إيمانهم بالغيب، ومنهم من لا ينسجم عملياً مع ما يجاهر به.

5 - أن الذين لا يؤمنون بالغيب، يكشفون تناقضهم حين يكشفون ما يثبت إيمانهم بالغيب، ويؤكدون إيمانهم بالعقل، والعقل كله غيب. المادة هي الدماغ، أما عملية الفكر والموازين الكلية التي تتحرك وفقها فليست من عالم المادة والشهادة بشي‏ء، لا من قريب ولا من بعيد.

6 - أن الجو العام والمناخ الفكري الذي يفرض خصائصه، وينشر ثقافته القائمة على التناقض، هو "منطق" الأقلية، العاجز عن تقديم دليل عقلي على مدعاه، فإذا مراكز التعليم، ووسائل الإعلام، ومراكز السلطة والقرار، مستنفرة لتعميم هذا المنحى.

7 - ورغم ذلك كله فإن كل ما أمكن لهؤلاء إنجازه لا يتعدى حدود الضوضاء والجلبة، والفرض بقوة الحديد والنار، وسطوة الغرائز والدولار. وما يزال أكثر الناس في الغرب والشرق والشمال والجنوب، يؤمنون بأن السائد لا يعدو كونه استعماراً فكرياً تمكن من احتلال الجزء الأكبر من "عاصمة" التوجيه وإصدار الأوامر.
لقد نجح هذا المد المنكر للعقل وكل غيب، في كم الأفواه، ومصادرة حرية الرأي والتعبير عنه، ولكنه لم ينجح في صوغ رؤية، تستند إلى دليل، ليكتب لها البقاء:
"وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين" (الأنعام: 29).
ولانعدام الدليل، كانت النتيجة أن الحاضر الأقوى في المكونات الثقافية للشعوب بلا استثناء هو الإيمان بالغيب، بما يجسده من عقلانية هي صلب الفطرة التي هي الركائز العقلية في الإنسان.

* مكمن الغموض:
وتعني هذه المفارقات بجلاء، أن الغيب الذي يفترض أن يكون مل‏ء الوعي والحياة، أصبح مغيباً عن دائرة الوعي وفلسفة الحياة، والنتيجة الحتمية لذلك اختلال كل الصور، وهشاشة كل القناعات.
كما هو عالم المجانين المبني على التنكر للعقل، هو عالم هؤلاء المنكرين للغيب، الذين فرضوا هيمنة تجبّرهم على نطاق واسع، فغدا أكثر المؤمنين بالغيب يخجلون بنسبتهم إليه، رغم عميق انشدادهم، الذي شكل الفارق بين عالمهم وعالم المجانين، فإذا بهم يعلنون الجنون، ويضمرون العقل، يعلنون الكفر ويضمرون الإيمان.
هؤلاء هم المستضعفون حقاً، الذين يجب الدفاع عنهم، والمطالبون بالهجرة في أرض الله الواسعة بحثاً عما يحقق الانسجام وينقذهم من براثن الانفصام المادي، الذي يفهم الكون كله جسداً لا روح فيه.
أوَليس التنكر للروح والتنكر للغيب، وبالتالي تشيُ‏ء الجسد والكون من وادٍ واحد؟
وسيظل الدفاع عن حقيقة الغيب واتحادها مع حقيقة العقل مستحيلاً ما لم ندرك أن مكمن الغموض الذي هو منشأ كل تضليل، هذا الفارق التخصصي البسيط جداً، والهائل جداً في آن، بين الغيب والخرافة.

إنه كالفرق بين الغيب والعيب، مجرد نقطة لكنها تقلب المعنى من الحقير إلى العظيم الخطير.
ليست الخرافة إلا ما لا يمكن، وليس الغيب إلا ما نحسب أنه لا يمكن.
والفرق بينهما قيام الدليل على الإمكان وعدمه.
ومن يصدر من قناعات الطين والحمأ المسنون، فيفكر بحواسه لا مجال لديه لافتراضٍ مستغرَبٍ حدَّ الخرافة، يمكن أن يقوم عليه الدليل.
فهو لا يكلف نفسه عناء البحث، ويعفيها من إعمال العقل.
وهو إذاً قد اعتمد مسبقاً دليلاً! يربأ العقل عن اعتماده، هو رفض المستغرب.
ورفض المستغرب هو الوجه الآخر لقبول المستقرب، وتبدأ الرطانة ولا تنتهي.
والخطير أنها رطانة التنكب للعقل باسم العقل، والتفلت من البحث عن دليل بالدليل المسبق المدعى والموهوم.
من مظاهر هذه الرطانة النكراء أن المنكر للألوهية يدعيها لنفسه!
أليس الإله وحده مقياس الحقيقة وامتيازها عن الباطل؟
أوَليس المعتمِد لاستغرابه والاستقراب دليلي نفي وإثبات، مدعياً للألوهية، بل الذاهب فيها عريضاً؟
وهل من ركن شديد يمكِّن من الإعتصام بالحق، والنجاة من لجج الباطل، إلا مرجعية العقل، والتثبت في محرابه من مصداقية هذا المستغرب المستقرَب غيره أو عدمها؟
يتبع في العدد القادم‏
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع