د. حسن سلهب
مع تقدُّم العلوم التربوية، دخل موضوع تقييم أعمال التلامذة، كغيره من الموضوعات التربوية، مرحلة جديدة من التطوُّر طالت معظم مكوناته السابقة. في هذه المقالة، سوف نتوقف عند أثر هذا التطور في غاياته وآلياته، وبعض الملاحظات في هذا المجال.
1- الغايات
إن أول ما يتعين الوقوف عنده في التقييم الحديث، هو الغاية الجديدة له. فقد تبدلت بشكل جوهري، وغدت في خدمة التعليم وأحد مكوناته العضوية. لم ينتهِ دور التقييم كمقرَّر في المستوى التعليمي للتلامذة، نجاحاً أو رسوباً، ولكنه دخل في دورٍ جديد أعمق وأوسع من دوره السابق، حيث بدأ يبحث في علاقة نتائج التعليم، ليس بمستوى التلميذ وقدراته فحسب، بل بفعالية جهود المعلم وجدارته، وحتى بجدوى النظام التربوي برمته. من هنا، لم يعد التلميذ موضوعاً وحيداً في التقييم، كما لم يعد مسؤولاً دائماً عن تحصيله العلمي. وليس من قبيل المبالغة القول بأن التلميذ هو آخر من يتحمَّل المسؤولية عن تحصيله العلمي، لا سيما في الصفوف الأولى من التعليم الأساسي. ولم يعد التقييم نفسه بمنأى عن تحمُّل المسؤولية هذه، وهذا أخطر نقد يوجه لعملية التقييم. فقد غرق الباحثون في أسباب التأخر الدراسي بين التلامذة والمعلمين والمناهج، وقليلاً ما توقفوا أمام صدقية النتائج التي قدمها التقييم ومدى قدرتها على الكشف عن المستوى الحقيقي للتعلُّم.
2- الآليات
إن الاكتفاء بفحص جانب من جوانب معرفة أو قدرة أو مهارة علمية ما عند التلميذ، يطمس واقع هذه المعرفة أو القدرة أو المهارة أكثر مما يجلَّيه. والاقتصار على واحدة من العمليات الذهنية عند التلميذ، كالحفظ، أو الفهم، أو التحليل، أو التقييم، أو التركيب، أو الإبداع، يشكل اختزالاً مشوَّهاً للمستوى العلمي والذهني له. ولن يكتمل المشهد الحقيقي لهذا المستوى إلا في حال مراعاة كل هذه العمليات الذهنية، أو معظمها، في بناء التقييم. ذلك أن الاكتساب العلمي عند التلميذ ينطوي على تعقيدات عديدة، لا يمكن تجاوزها، إلا عبر فحص كامل الموضوع، وفي معظم أبعاده. قد لا يكون ذلك ضرورياً إلى هذا الحد إذا ما كانت غاية التقييم مقتصرة على التقرير بالنجاح والرسوب، لكنها واجبة عندما تكون المعالجة هي الغاية. إذا كان الهدف أن يحدِّد التلميذ مواقع الدول على خريطة العالم، فلا يمكن الاكتفاء بجانب من هذه الخريطة، كما لا يمكن الاقتصار على نمط معتاد من الخرائط، أو اعتبار تعيين بعض الدول، دون غيرها، هو كل الاكتساب المطلوب. ذلك أن تعليل أو تفسير هذا الموقع لهذه الدولة أهم من المطابقة الصورية بينهما. والقدرة على استخدام مفتاح الخريطة ضروري في فهم خطوطها وأشكالها أكثر من حفظ الصورة الذهنية لها. وإذا أخذنا كفاية أو هدفاً آخر في اللغة العربية على سبيل المثال: إعداد رسالة ودية لصديق، فهل يمكن الاقتصار على حافظته في انتقاء المفردات، أم على فهمه في صياغة المضمون، أو حتى على تحليله أو تركيبه في بناء النص؟ هذا من جهة العمليات الذهنية، أما من جهة كلية القدرة والمهارة، فلا يمكن الاكتفاء بتسجيل التلميذ لأخباره وعواطفه، بل لا بد له من العناية بأصول المراسلة لناحية الشكل والمنهج، والمحتويات الرئيسية والفرعية، فضلاً عن سلامة اللغة ومقروئية الخط، وغير ذلك من العناصر التي تدخل في مكونات الكفاية أو الهدف.
3- ملاحظات عامة
لم يعد التقييم، إذاً، انتقاءً لجوانب من المعارف أو القدرات أو المهارات، أو انحيازاً لبعض العمليات الذهنية، بل مسحاً شاملاً للمكتسبات العلمية الجديدة عند التلميذ، من دون أن يعني ذلك استغراقاً في التفاصيل، أو استحضاراً لكل المحتوى. في الحديث عن التحضير ركَّزنا على أثره الفعلي في الحصة التعليمية، وأنه يتجاوز كونه استعداداً عاماً، أو احتياطاً مسبقاً، إلى كونه ترسيمة عملانية للمشهد الذي سيتم تحقيقه في الصف، وما يعني ذلك من الدور العضوي للتحضير في التعليم. الكلام نفسه يتكرَّر في التقييم، لكن من جهة أخرى، حيث يتم تجاوز نتائج التلامذة كمعطى محدود ونهائي إلى المقدمات التي تسببت بها، أو أسهمت في تحقيقها، ما يعني أيضاً العودة إلى التعليم، وبالتالي، اعتباره البؤرة المركزية، التي يدور في فلكها التقييم كما يصنعها التحضير. وبهذه الطريقة، تصبح مجريات الحصة التعلمية، بكل مكوناتها، مرجعاً منهجياً، يعكس السابق كما يربط اللاحق. فيغدو التحضير، ومن ثم التقييم، عملاً تطويرياً على الدوام. أخيراً، يمكن القول بأن التقييم اليوم، سواء لجهة غايته الجديدة أو آلياته المتطورة، يشكل خطوات متقدمة على طريق الواقعية، واقتراباً منهجياً من الحياة الفعلية التي سوف يستثمر التلميذ فيها علومه لاحقاً. فالنتائج لم تعد موضوعاً للتقديم أو التأخير، والآليات لم تعد ضرباً من التيسير أو التعجيز، بل معطيات جديدة وأدوات موضوعية، تسهم كل واحدة منها في جعل عملية التعلُّم أقوى زخماً، وأكثر إنسانية.