أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

قرآنيات‏: الأمثال المضروبة في القرآن الكريم (2)

الشيخ عمار حمادة

 



تطرق القرآن الكريم مراراً إلى الكلام عن ضرب الأمثال، وبيَّن في أكثر من آية هذه المنهجية المميزة في عرض الأفكار السامية والمجردة، من خلال ما يشبهها ويمثِّل لها من المحسوسات ومن الظواهر الطبيعية. تتسنَّم هذا النوع من الآيات الآية الشريفة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين (البقرة: 26). حيث يقول فيها إنَّه لا يخشى من ذكر أي شي‏ء للتمثيل به عمَّا هو حق، ولو أدَّى هذا إلى ضلال البعض وهداية البعض الآخر. وذلك أنَّ من آمن بهذا الكتاب وأنَّه من عند الله، فإنَّه يعتصر من المثل أسمى معاني الهداية وأرقى المبادئ والأفكار، أما من نظر إليه كسائر الكتب، فإنَّه يضلُّ بسبب فسقه وتسفيهه للكتاب الإلهي المبين الحاوي للباب الحكمة ومصفَّى عسل الهداية.

الآية توحي أيضاً بأنَّ المثل المضروب قد يكون حشرةً متناهية الصغر، أو شيئاً مما لا يؤبه له، أو حادثةً مما يجري في أيام الناس الاعتيادية؛ كما قد يكون قصةً مفروضة الوقوع، أو حادثة جرت في سوالف الأزمنة وطيات التاريخ، كل ذلك يسوقه القرآن أمثالاً تنقل ذهن المخاطب إلى تصوُّر معانٍ يريد الله للناس أن يعلموها ويرى صلاحهم في معرفتها. لقد استطاعت هذه الأمثال أن تيسِّرَ للإنسان فهمَ أكثر المسائل غموضاً، واستطاع المتتبع لها أن يقطف أثمار الفكر والفائدة جنىً يُغَيِّرُ به مسار حياته. فكم من مبادئ في العقيدة الإلهية لم يمكن التنبُّه لها، إلاَّ من خلال الأمثال؟ وكم من مواعظ لم ترسخ في الوجدان والقلب، إلا بسكبها في قالب المثل، فيتعظ بها من لا سبيل لهم إلى الدراسة والتعمُّق قبل العلماء والدارسين؟ ولنا في القصص القرآني خير شاهد. متابعةً للمسعى الذي بدأناه في المقالة السابقة، نشرع باستعراض مثالين ضربهما القرآن لتعليم الناس مفهومين مهمين جداً من مفاهيم الإيمان:

المثال الأوَّل: حول النور الإلهي‏
حيث يقول الله تعالى في كتابه: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (النور: 35).
أراد الله بهذا المثل أن يبين حقيقة أنَّه تعالى نورٌ تستنير به الموجودات كلها، بمعنى أنَّها تظهر به من كَتْمِ العدم وظلمته إلى رَحْبِ الوجود واستنارته. فهو بإشراقه عليها، كما تشرق الأنوار الحسية على الأجسام فتظهرها للعين، يوجدها بعد أن كانت معدومة. فمثَّل لهذا النور بالضوء الطالع من زجاجة موضوعة على مصباح موقد من زيتٍ صافٍ. وهذا الضوء المشرق من الزجاجة موضوع في مشكاة تجمعه وتعكسه فيشرق على المستنيرين به في منتهى القوة وتمام الجمال والجودة والصفاء.

وإيراد المشكاة التي هي كوة تُتَّخذ في جدار البيت لوضع المصباح بها في المثال، جاء للدلالة على اجتماع النور في بطنها وانعكاسه في جو الغرفة مثلاً، واعتبار الزيت مستخرجاً من زيتونة لا شرقية ولا غربية، يعني أنَّه مأخوذ من شجرة على أعلى الجبل، بحيث تراها الشمس قبل الزوال وبعده، فهي ليست لا في السفح الشرقي ولا الغربي، وهذا ما يساهم في صفاء الزيت الذي بدوره يؤثر في صفاء النور. أما القول بأنَّ الزيت يضي‏ء ويشتعل ولو لم تمسسه نار، فهو للدلالة على جودة نوعه وجودة الضوء المنبعث منه. وهذا كلُّه إشارة إلى الكمال الإلهي المطلق. في آخر الآية قوله ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ... إشارة إلى ما قلناه من أنَّ المثل المضروب وراءه طورٌ من العلم، اختير المثل لكونه أسهل الطرق في بيانه، بحيث يشترك فيه العالم والعامي، فيأخذ منه كلٌّ على قدر ما قسم له(1).

وقد روي في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق عن الصادق (ع)، أنَّه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ... الخ. فقال عليه السلام: "هو مثلٌ ضربه الله لنا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام من دلالات الله وآياته". وكذلك، ورد بإسنادٍ عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عليه السلام، عن أبيه في هذه الآية قال: ﴿مَثَلُ نُورِهِ مثل هداه في قلب المؤمن. ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح: جوف المؤمن، والقنديل قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه. ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة الشجرة: المؤمن. ﴿زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ على سواء الجبل، لا غربية أي لا شرق لها ولا شرقية أي لا غرب لها، إذا طلعت الشمس طلعت عليها، وإذا غابت غربت عليها. ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ يكاد النور الذي في قلبه يضي‏ء وإن لم يتكلَّم. ﴿نُورٌ عَلَى نُور فريضة على فريضة وسنّة على سنّة. ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء. ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاس فهذا مثل ضربه الله للمؤمن"(2).

وهكذا نرى أنَّ استخدام المثال في هذه الآية، قد استفيد منه لشرح عدة مفاهيم في عرضٍ واحد. فقد استخدم هنا لشرح النور الإلهي بمعنى نور الوجود وإفاضةً الوجود على الأشياء، وبمعنى نور الهداية الإلهية التي تشع في داخل الإنسان المؤمن. فالمؤمن المُمثل له بالزيتونة التي يكاد زيتها يضي‏ء ولو لم تمسسه النار، هو الإنسان الذي يزهر قلبه بالإيمان، فيعرفه الناس ولو لم ينبس ببنت شفة، ويا له من مثلٍ وتشبيه.

2 المثال الثاني:
حول اختلاف قابلية الناس في نيل الهداية، حيث يقول القرآن الكريم: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (الرعد: 17).
فالقلوب والأفهام مختلفة في تلقي المعارف والمعلومات ومتفاوتة في تحصيل الكمالات، مع أنَّ العطاء الإلهي فيهما واحد، فالرزق ينزل من السماء بدفق واحد وكمية واحدة، فكيف يحصل لكلٍّ من المتلقين مقدار غير المقدار الذي يتلقاه الآخر؟ في تفسير هذه الآية وبيان مورد المثل فيها، جاء في تفسير الميزان بعد شرح عباراتها: "وقد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية:
أحدها: أنَّ الوجود النازل من عند الله تعالى على الموجودات هو بمنزلة الرحمة السماوية، والمطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خالٍ في نفسه عن الصور والأقدار، وإنما يتقدَّر من ناحية الأشياء أنفسها، كماء المطر الذي يحتمل من القدر والصورة ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار والصور، فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها واستعدادها، وتختلف باختلاف الاستعدادات والظروف والأوعية، وهذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى"(3).

إذا أردنا أن نصوغ كلام العلامة في تفسير هذه الآية وشرح المثل المضروب فيها نقول: إنَّ واهب القلوب والكمالات يهب الناس هذه النعم بالتساوي، لأن كرمه غير محدود ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، إنما استفادة الناس من هذه النعم تختلف باختلاف إرادتهم وتوجههم وسعة همتهم في النهل من المعين الإلهي الذي لا ينضب. فالبعض يتلهى بحطام الدنيا ويرغب بها فيأخذ من السيل زبده، والبعض يرغب فيما ينفعه في أولاه وأخراه ولكن يقعد به ضعف همته عن التحصيل، والبعض الآخر يتوق إلى أقاصي العطايا ويمتاز بعلو الهمة، فينعم بهمته في آخرته وأولاه ويأخذ من السيل ما يمكث في الأرض مما ينفع الناس، وهكذا البعض الرابع لا يأخذ من هذه إلا الصفايا ولا يقبل من الأمور إلا أسماها، وهؤلاء هم الأولياء الحقيقيون.

وهذا ما يشبه حال الأودية مع مطر السماء، فكل وادٍ يسيل بقدر حجمه وسعة ما يستوعبه ما بين السفحين إلى القعر، وبهذا المقدار يسيل السيل منه. فما كان سفحاه قريبين كان سيله قليلاً، وما كان سفحاه بعيدين أخذ من ماء المطر ما يسقي زروع الكثير من السهول ويملأ الكثير من البرك والأنهار. ولله في خلق الطبيعة سرٌّ وهدف ومثال لما يمكن للقلوب أن تختزنه من ماء العلم والهداية، وإلى أمثال أخرى بعون الله.



(1) مقتبس من الميزان، ج‏15، ص‏119.
(2) تفسير القمي، ج‏2، ص‏103.
(3) تفسير الميزان، ج‏11، ص‏332.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع