السيد سامي خضرا
1 - من الأدب أن لا يأكل الإنسان في السوق، وهو يسعى بين الناس، أو يمشي في الشوارع والأزقة، إلا إذا كان مُضْطراً إلى ذلك، أو وُجد سببٌ وجيه يدعوه لهذا الأمر. ولا شك أن لهذا التشريع الإلهي آثاراً على الفرد والمجتمع. وحتى يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً منظماً، يجعل وقتاً خاصاً للعمل وتصحيح الدورة الاقتصادية، ووقتاً خاصاً لتناول الطعام بهدوء واستقرار وراحة وظروف مساعدة، كما ورد استحبابُه معنا سابقاً... بينما نرى الفرد الذي يأكل في السوق، وبشكل عام، يأكل بسرعة وكيفما كان، دون الالتفات للسنن الشرعية والنصائح الصحية. جاء عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: "الأكل في السوق دناءةٌ"(1). وسُئل أبو الحسن عليه السلام عن السَّفلة، فقال: "الذي يأكل في السوق"(2). ولا بدَّ من التأكيد مجدداً، أن كراهية الأكل في السوق محصورةٌ في غير حال الاضطرار. أما عندها، فلا بأس به، كما لو كانت طبيعةُ عمله أن يخرج باكراً (ومن هؤلاء: بائعُ الخضارِ والسمكِ والجزار وبعضُ البنائين وغيرهم...) أو أن يبيت خارج المنزل، أو كان مريضاً.
2- يُكرهُ تركُ أكل اللحم أربعين يوماً، لحاجة الإنسان الضرورية إليه، فقد ورد عن مولانا الصادق عليه السلام قوله: "اللحم يُنبتُ اللحم، ومن تركه أربعين يوماً ساء خُلُقُه، ومن ساء خُلُقُه، فأذِّنوا في أذُنه"(3). وهذا من موارده أيضاً عند الأذان، أي إذا ساء خلق الإنسان. ومن موارده أيضاً عند الخوف والوحشة إذا كان وحيداً في الصحراء، وقد أفتى الفقهاء بذلك كما في العروة الوثقى(4).
3 - ويُكره أكلُ اللحم النَيِّئ، إلا أن يُغيَّر بالشمس أو بالنار، كأن يُشوى أو يُطبخ، وذلك وقاية من المخاطر... ولا شك أن فيه مصلحةً جسديةً أو معنوية، فعن هشام بن سالم قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن أكل اللحم النَيِّئ، فقال: هذا طعام السِّباع(5). وجاء عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى أن يؤكل اللحم غريضاً (أي نيِّئاً)، وقال: "إنما تأكُلُهُ السباع، حتى تُغَيِّره الشمسُ أو النار"، أي لا تأكُلْهُ حتى تُغيِّره الشمسُ أو النار. والفراكة، ما حكمها؟ وأخال القارئ الكريم يتساءل حول حكم "الفراكة" في هذا المجال، لأنها الأكلةُ المفضلةُ عند الكثير من أهل لبنان وبلاد الشام، وهل الكراهيةُ تشملها؟ (الفراكة: الكبة النيِّئة في بعض البلدان وهي طعام يصنع من فرك اللحم النَيِّئ بعد تنعيمه بشدة بالسميد أي البرغل). وفي الإجابة على هذا التساؤل، يبدو والله العالم أن الكراهية لا تشملها، لأن النصوص التي وردت تحدثت عن اللحم النَيِّئ الذي يؤكل لوحده دون شيء، قِطعاً نهشاً كما تأكله البهائم. وأما ما يُسمى "بالفراكة" في جبل عامل، فيَدخل عليها البرغل بنسبة لا بأس بها، وكثيرٌ من التوابل والبهارات الأخرى بنسبة عالية أيضاً، بحيث يُخْرجُها عن عنوان اللحم النَيِّئ الذي وردت كراهيتُه... والله العالم، وإليه قصد السبيل.
4- وهناك دعاءٌ خاص ورد استحبابُه لمن خاف الضررَ من أكل طعام معين، إذ روى الأصبغُ بن نباتة قال: "دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام وقُدامُه شِواء، فقال: أُدْنُ، فكُلْ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين هذا لي ضار، فقال: أُدْنُ، أُعلِّمْك كلماتٍ لا يضرُّك معهن شيءٌ مما تخاف، قل: "بسم الله خير الأسماء، بسم الله ملء الأرض والسماء، الرحمن الرحيم، الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ ولا داء"، تغدَّ معنا(6). وفي رواية أخرى: عن الأصبغ أيضاً أن الدعاء هو: "أللهم إني أسألك باسمك خير الأسماء، ملء الأرضِ والسماء، الرحمن الرحيم، الذي لا يضُرُّ معه داء" فلا يضرُّك أبداً(7).
5- وورد في الشرع المقدس، كراهية أكلِ الطعام الحار جداً، واستحبابُ تركه حتى يبرد دون أن ينفخ فيه، أو حتى يُصبحَ بالإمكان أخذه بلا مشقة، وأن نتذكر النارَ عنده. ولا ريب أنَّ تناول الطعام الحار، يجعل المرء لا يستلذ طعمه ونكهته، ولا يستأنسُ في أكله، فينحصرُ همُّه في توقِّي حرقِ لسانه، والحَيْرَةِ بين بلعه أو لفظِه إلى الخارج، أو إدارته في فضاء الفم حتى يمكن بلعه. فالمستحب أن يُتركَ هذا الطعام دقائق معدودة، ثم يَهْنأُ الآكلُ في طعامه، فيأكل براحة بال، وقرارِ حال. فقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وآله جُعِل أمامه طعامٌ حارٌّ جداً، فقال: ما كان الله ليطعمنا النار، أقرِّوه حتى يُمكِن، فإنه طعامٌ ممحوقُ البركة، وللشيطان فيه نصيب(8). وعن سليمان بن خالد، قال: حضرتُ عِشاءً عند أبي عبد الله عليه السلام في الصيف، فأُتي بخوان عليه خبز، وأُتي بجَفْنَةِ ثريدٍ ولحم، فقال: هَلُمّ إلى هذا الطعام، فدنوتُ، فوضع يدَه، فرفعها وهو يقول: أستجير بالله من النار، أعوذ بالله من النار، هذا لا نقوى عليه، فكيف النار؟! هذا لا نطيقه، فكيف النار؟! هذا لا نصبرُ عليه، فكيف النار؟! قال: فكان يُكرر ذلك حتى أمكن الطعام (أي أنه أصبح ممكنَ التناول)، فأكل وأكلنا معه(9).
6 - وورد في بعض النصوص المباركة، كراهيةُ النفخِ في الطعام والشراب، بل يُتركُ حتى يبرد لوحده، وقد يكون ذلك، بأنَّ النفخ يؤدي إلى اشمئزاز الغير(10).
7- ولكن هذا كلّهُ لا يعني أن يؤكل الطعامُ بارداً تماماً، بحيث لا يُثيرُ الشهيةَ، وخاصةً في أيام البرد والشتاء، حيث الاستئناسُ بالطعام المحتمَلِ الحرارةِ، فهناك روايات تشير إلى استحباب أكل الطعامِ، قبل أن تذهب حرارَتُه بالكلية، وإنما المكروه إذا كان شديد الحرارة. فعن جعفر بن محمد بن حكيم، عن مرازم، قال: بعث إلينا أبو عبد الله صلى الله عليه وآله بطعام سخن، وقال: "كلوا قبل أن يبرد، فإنه أطيب"(11).
8- وردت الكراهية في قطع اللحم على المائدة بالسكين، فعن زيد بن علي عن آبائه عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يُقطَعَ اللحمُ على المائدة بالسكين(12).
9- وورد عن الصادق عليه السلام استحبابُ ذرِّ الملح على أول لُقمة يأكلها، ومن فعل ذلك، فإنه يستقبل الغنى. أما رواياتُ استحباب البَدْء بالملح والخَتْم به، فهي أكثرُ من أن تُحصى، وعبَّر الحرُّ العاملي رضوان الله عليه، في وسائل الشيعة عن هذه الروايات، فوصفها بالكثرة والشهرة والصراحة(13).
10- وذُكر أيضاً استحبابُ الافتتاح بالخل والختم به، أو الابتداء بالملح والختم بالخل... وورد عن الصادق عليه السلام: إن الخل ليشدُّ العقل(14). ورُوي أنَّ رجلاً كان عند الرضا عليه السلام بخراسان، فقدِّمت إليه مائدةٌ عليها خلٌّ وملح، فافتتحَ بالخل، قال الرجل: جُعلتُ فداك، أمرتمونا أن نفتتح بالملح، فقال عليه السلام: هذا مثلُه، يعني الخلَّ، وإن الخل يشُدُّ الذِهنَ، ويزيدُ في العقل(15).
(1) وسائل الشيعة، ج1، ص619، ح2.
(2) وسائل الشيعة، ج1، ص619، ح1.
(3) المصدر نفسه، ح1، باب 88.
(4) ج1، ص457.
(5) وسائل الشيعة، ج16، ص620، ح1، باب89.
(6) وسائل الشيعة، ج16، ص620، ح1، باب90.
(7) وسائل الشيعة، ج16، ص620، ح2، باب90.
(8) وسائل الشيعة، ج16، ص626، ح5.
(9) وسائل الشيعة، ج16، ص626، ح3.
(10) راجع وسائل الشيعة، ج16، ص623، باب 92.
(11) المصدر نفسه، ص624، ح1، باب 93.
(12) وسائل الشيعة، ج16، ص625، ح3.
(13) وسائل الشيعة، ج16، ص629، ح4.
(14) المصدر نفسه، ص628، ح1.
(15) المصدر نفسه، ص629، ح2.