مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قافلة السبي بداية الرحلة

الشيخ فيصل الكاظمي

 




كانت مسألة إصرار الإمام الحسين عليه السلام على أخذ النساء معه، رغم ما أبداه محبوه من أهل بيته من نصائح وتمنيات على إبقاء النساء، وهو ما يعني إبقاء الأطفال بالضرورة بمكة وعدم أخذهم إلى العراق، كانت هذه المسألة من المسائل التي جرى فيها وحولها الكثير من التحليل والتفسير والتأويل. لقد كان الذين تألموا لخروج الإمام الحسين عليه السلام ونسائه وأطفاله يوم التروية من مكة والحجيج متوجهين نحو منى، للمبيت بها قبل الوقوف بعرفات بعد ذلك، كان أولئك المتألمون يخافون على الإمام الحسين عليه السلام أن يُقتل والنساء أن تُسبى والأطفال أن يُروّعوا. وكان عليه السلام يخاف على دين الله تعالى وسنّة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من أن يدرسا وينتهيا، جراء الخطة الجاهلية الأمويّة.

وقد ردّ الإمام الحسين عليه السلام على محبّيه والمتألمين لأجله، كعبد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن الحنفيّة، ردّاً جميلاً. وكان الموقف مع الأخير هو الحاسم، وفيما قال عليه السلام له: "شاء الله أن يراني قتيلاً، وشاء الله أن يراهن سبايا"(1). ولعل من أبرز النتائج والأبعاد التي توخاها الإمام عليه السلام من هذا الإصرار على أخذ النساء معه، ما يلي:

1- خطوة تهدف إلى هز ضمير العالم الإسلامي آنذاك، حينما تتهادى إلى مسامعهم أنباء اضطرار خروج الإمام الحسين عليه السلام بعياله وأطفاله غير آمنٍ عليهم، من بلد إلى آخر، وهم بقية النبوة وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولعل هزة الضمير هذه تضعهم أمام موقف اتخاذ قرارهم في دعم النهضة الحسينية والوقوف معها.

2- إلقاء الحجة على الذين برّروا عدم نصرتهم للحسين عليه السلام، بأن لهم عيالاً وأطفالاً يخافون عليهم من ابن زياد وبقية طغاة الأمويين، فكان أن جاء الحسين بعياله وأطفاله إلى ساحة المعركة.

3- خطوة احترازية لكي يبقى الحسين عليه السلام حراً في اتخاذ القرار المناسب مع أحداث نهضته وتطوراتها، لأن في ترك العيال والأطفال بمكة أو المدينة وذهابه مع الرجال إلى كربلاء، احتمال سجنهن مع أطفالهن في محاولة للضغط على مواقف الحسين عليه السلام أو تحديد مساراتها على حدّ أقلّ.

4- والأمر الذي قد يبدو أكثر أهمية وعطاءً وآثاراً من النقاط الثلاث أعلاه، أن النهضة الحسينية لم تكن لتأخذ أبعادها وتصل إلى أهدافها وتترك في الأجيال والأمم بصماتها الرسالية، لولا وجود النساء بكربلاء ثم رحلة السبي، لما قمن به من أدوار وكشفن من حقائق ونشرن من مظلومية.

كما لا بد أن نؤكد ونحن في صدد بيان أسباب إصرار الإمام الحسين على أخذ النساء معه أن النساء وأطفالهن قاموا بدور مهم في حماية الإمام زين العابدين عليه السلام. فقد دافعت عنه عمته السيدة زينب عليها السلام مرات، لعل أبرزها ساعة هجوم القوم على المخيم، وفي قصر الإمارة بالكوفة.

* بداية رحلة السبي‏
لقد بدأت مهمة زينب عليها السلام منذ سقوط الإمام الحسين عليه السلام عصر يوم عاشوراء عام 61هـ على أرض كربلاء مخضباً بدم الشهادة. وكانت عليها مهام عدة في تلك الساعة الرهيبة، التي تتيه فيها عقول أولي النُهى والحجى، ولكنها ابنة أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام:
 

 بأبي التي ورثت مصائب أمها

 فغدت تقابلها بصبر أبيها


فكانت عليها السلام حامية إمام زمانها زين العابدين عليه السلام والمحافظة على النساء والأطفال، والمتفقدة لمن اختفى منهم، فلمّا جنّ الليل بعثت بصبيّين إلى عمر بن سعد لطلب خيمة يقضون تحتها ليلتهم الحزينة تلك؛ ليلة الحادي عشر من المحرّم. ولعل أبرز ما يسجّل لعقيلة بني هاشم من موقف يكشف عن مدى عمق رؤيتها الواعية وكحصيلة ذلك الإعداد الرسالي ما خاطبت به الإمام زين العابدين عليه السلام صبيحة يوم الحادي عشر وقد رأته يجود بنفسه، فانبرت قائلة له، مسمعة ركب السبايا لرفع معنويات المسبيات، ولمزيد من التبكيت والتقريع للظالمين الذين حضروا مقالتها: "ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وأخي!؟ فوالله، إن هذا العهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السموات. إنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً"(2).

إن هذا النص ذا المفاهيم الرسالية العميقة الذي تفوّهت به بطلةُ كربلاء زينب الكبرى عليها السلام، بما يكشف من رؤيةٍ بعيدة، وأفق يمتد مع التاريخ إلى ما سيمثله قبر سيد الشهداء عليه السلام للأمة عبر أجيالها، من منطلق للرفق، وموئل للإباء، ومدرسة للجهاد، وهي في ذلك الجو المفعم بالحزن والألم والمعاناة يكشف عن ذلك الإعداد الكبير الذي هُيئ لعقيلة بني هاشم عليها السلام:

 وتشاطرت هي والحسين بنهضةٍ

حتم القضاء عليها أن يُندبا 

 هذا بمُشتبك النصول وهذه

من حيث معترك المكاره في السبا(3)


وهذا الموقف يكاد يكون أول موقف للحوراء زينب عليها السلام يبرز في بداية رحلة السبي، يختزن هذه الأبعاد الرساليّة الواعية، وإذا أضفنا إليه موقفيها بدار الإمارة بالكوفة أمام الطاغية ابن زياد: "ما رأيت إلاّ جميلاً"(4)، وبقصر يزيد بدمشق وهي تخطب: "فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك. فوالله، لن تمحو ذكرنا، ولن تميت وحينا، ولن ترحض عنك عارها"(5) ثم موقفها بعد رجوعها إلى المدينة وتحريضها الناس على أخذ الثأر لشهداء كربلاء، حتى أُخرجت وأُبعدت إلى مصر على أرجح قولين في مكان وفاتها ودفنها عليها السلام (6) فإننا نرى أن كل هذه المواقف نقاط في غاية الأهمية لمن أراد أن يعرف شخصية السيدة زينب عليها السلام ودورها الكبير. وكانت النسوة قد قلن للأعداء يوم الحادي عشر "بالله عليكم، إلا ما مررتم بنا على القتلى. ولمّا نظرن إليهم مقطعي الأوصال قد طعمتهم الرماح ونهبت من دمائهم بيض الصفاح وطحنتهم الخيل" "صحن ولطمن الوجوه، وصاحت زينب عليها السلام: يا محمداه، هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا وذريتك مقتّلة، فأبكت والله كل عدوّ وصديق"(7).

وهذا النص "كل عدو وصديق"، يعني أن السيدة زينب عليها السلام بدأت عملية تغيير كبرى ستنال الأمة بأجمعها، باتجاه أهل البيت عليهم السلام وأطروحتهم التي هي أطروحة الإسلام، وذلك عبر إذكاء روح الشعور بالندم والإحساس بالإثم والاعتقاد بعظيم التقصير وسوء الموقف، مما يُحفز الأمة بأجمعها لتصحيح مسارها، والتكفير عن خطإها، والانتقام من حكامها الجائرين، ثم الانتصار لنهج الحق والهدى. إن موجة البكاء الأولى هذه من الأعداء في كربلاء، ستتلوها موجة بكاء وشعور بالإثم واسعة مع مسير السبايا من الكوفة حتى الشام، وحتى العودة إلى المدينة، ثم مصر بعد ذلك. كل حفلات البكاء والحزن هذه إنما تختزن عملية تغيير داخلية، انعكست بعض آثارها في انكفاء الأمة على الإمام زين العابدين عليه السلام وأبنائه الأئمة من بعده عليهم السلام.

وفي جو البكاء العام الذي أحدثته السيدة زينب عليها السلام وهي تخاطب أخاها السبط الشهيد عليه السلام وبقية الشهداء، قامت بخطوة ذات إيحاءات كبيرة، حينما نزلت إلى ذلك الجسد الطاهر وقرنت يديها تحته لترفعه وترمق السماء بطرفها، وهي تخاطب بارئها تعالى بقولها: "إلهي، تقبّل هذا القربان". كما ذهبت بعض المصادر إلى أن ذلك الأمر كان نهاراً وليس ليلاً(8). فإذا جمعنا كل تلك المؤثرات، خطبة أهاجت العواطف والمشاعر، كلمة هادفة عن قبر الحسين وخلوده، ونزول إلى الجسد الطاهر، ونداء نحو الخالق الكريم تعالى... كل هذه توجد صورة في غاية التأثير وجديرة بإحداث عملية تغيير كبرى، حتى في ذلك الجيش الذي ارتكب الجريمة الكبرى في التاريخ.

وبعد ظهر يوم الحادي عشر من المحرم، قام عمر بن سعد بالرحيل عن كربلاء بركب السبايا وهن عشرون امرأة وما يقارب من ثمانين طفلاً وطفلة، إضافة إلى الإمام السجاد عليه السلام بعمر ثلاث وعشرين سنة والإمام الباقر عليه السلام بعمر سنتين وأشهر في بداية رحلة السبي بعدما قام عمر بن سعد بدفن أجساد قتلى الجيش الأموي وترك جسد الحسين وأجساد الشهداء معه ملقاة على تراب كربلاء:

ما بقيت من الهوان على الثرى

  ملقىً ثلاثاً في رين‏

 إلا لكي تقضي عليكَ صلاتها

زمرُ الملائك فوق سبع شداد

 


(1) السيد عبد الرزاق المقرّم: مقتل الحسين عليه السلام، ص‏167، نقلاً عن البحار للعلامة المجلسي.
السيد محمد تقي بحر العلوم: مقتل الحسين عليه السلام، ص‏160، نقلاً عن اللهوف لابن طاووس.
(2) ابن قولويه القمّي: الكامل في الزيارات، باب 88 ص‏261.
(3) من قصيدة للميرزا محمد علي الأوردبادي رحمه الله.
(4) الطبري، 4 349. مقتل الحسين للمقرّم، ص‏324.
(5) مقتل الخوارزمي، 2 73.
(6) ابن يحيى العبدلي: تاريخ الزينبات.
(7) تاريخ الطبري، 4 349، تاريخ الكامل لابن الأثير، 3 296.
(8) منها مقتل الحسين عليه السلام للسيد المقرّم، ص‏307.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع