مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أمراء الجنة: الشهيد محمد منيف أشمر(عبد العزيز)

نسرين إدريس

 



بطاقة الهوية
اسم الأم: دلال سلطان‏
محل وتاريخ الولادة: عديسة 25- 5 - 1972
الوضع العائلي: متأهل وله ثلاثة أولاد
رقم السجل: 100
مكان وتاريخ الاستشهاد: سجد 18- 10 - 1998

لمحمد ذلك البحرُ الزاخر بالأسرار، ألف دمعة شوقٍ مدُّها المهاجر صوب السماء ينكسر عند أعتاب نور نجمة ليتناثر لؤلؤاً من نشيج اللقاء؛ ألف صلاة عشقٍ محرابها فوهة البندقية الساخنة، وسجادتها تراب لامس أقدام مجاهدين ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ.. قُبيل صلاة الفجر الأخيرة؛ خلع محمد نعليه ودخل الوادي المقدس ونادى في صلاته: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ؛ فأجابه ربه: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.. فأبلغ الإخوة في القيادة أن الاستخارة التي قام بها للتقدم ناحية الدورية الإسرائيلية كانت (وأنا اخترتك..)

بعد أن تركوا له تقييم الوضع وتحديد المصلحة، فعزم على التقدم إلى المنطقة التي لا يعود من دخل إليها، وعيناه الشاخصتان ناحية الغربان ترميان سهام النصر الذي يبغيه. لكم انتظر محمد هذه اللحظة. لكم خبأ لها بساتين الشوق الفواحة، حتى إذا ما أزفت انبجس غدير دمه ليصبح نجماً خالداً، وماء الحياة الدنيا غوراً.. رحل محمد (.. وأخيراً، فالقائم المهدي المنتظر عجل الله فرجه لا يريد هواة انتظار، ولا يريد محترفي انتظار، بل يريد من يعمل على تفعيل هذا الانتظار..)(*) في عملية عسكرية كبّدت العدو الصهيوني الخسائر البشرية والمعنوية، فقد تدخلت القوة المساندة والطائرات الحربية لصد رجل يحمل بندقية وأربعة مخازن رصاص فقط.. لا ريب أن الشهداء يختزنون دوماً في داخلهم الميزات التي تؤهلهم للشهادة؛ ولكن ما ميز محمداً عن غيره أنه ربى نفسه منذ الصغر على أنه مشروع شي‏ء خاص. لم تكن فكرة الجهاد والشهادة قد تبلورت في روحه، بالاستناد إلى الظروف المحيطة به، ولكنه أدرك بالطبع، وقبل أن يعرف حتى ماهية الدنيا، أن مسؤوليةً عظيمةً ستوكل إليه، فسعى ليكون على قدرها. في الكويت، ولد وتربى وسط بيئة التزامها فطري تحوّل مع انتصار الثورة الإسلامية إلى تدين عميق يحمل الأبعاد الإيمانية والاجتماعية والسياسية، فكان يرافق والده إلى المسجد وهو في سن السابعة، وسرعان ما التحق بهما الشقيق الأصغر "علي".. بين محمد وعلي، سر لن تدرك العقول كنهه، ولن تعرف القلوب حقيقته، ولكن لا شك أنهما كانا انعكاساً لعشقٍ واحد.
 

فبعد عودة العائلة إلى بيروت عام 1985 اثر المضايقات التي بدأ الحاج أبو عصام والد محمد يتعرض لها، وجد محمد نفسه في دائرة أكبر وأوسع؛ فهذه الضاحية الجنوبية عرين المقاومة، وهذا مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبد محراب المجاهدين، وهذا والده الذي زرع فيه الإيمان العميق وملكة تحمل المسؤولية لن يمانع إذا ما رأى ولده يندمج في صفوف التعبئة، ولكن في هذا الوقت توفيت والدته إثر مرض عضال، تاركة أولادها بعين الله الذي لا ينسى أحداً من خلقه، وافتقد محمد الحضن الدافئ في الحياة، إلى أن تزوج والده امرأة صالحة كانت خير أم قبل أن تكون خير زوجة، فتعلق قلب محمد بها، بعد أن لامس فيها مثال التضحية والتفاني..

رأى الحاج أبو عصام أن يهتم محمد مبدئياً بدروسه، فالتزم الابن بطلب الوالد، وعوض العمل في التعبئة الجهادية، بدأ بمشاركة الإخوة في التعبئة التربوية. وقد شكلت هذه التجربة بما تحويه من عمل اجتماعي وثقافي لَبنة الرجل الذي ما إن قرر حمل البندقية حتى هجر مكانه؛ فتحين الفرصة المناسبة للالتحاق بأول دورة عسكرية له، وكان قد أنهى دراسة المرحلة الثانوية، فكتب رسالة إلى والده يخبره فيها بقراره، ويطلب منه الرضا والمسامحة..إن التربية التي رباها الحاج أبو عصام لأولاده لا يمكن إلا أن تفضي إلى طريق المقاومة، مع ما كان يريده لهم من التسلح بالعلم أيضاً. وعندما رجع محمد إلى بيروت، كان كل شي‏ء فيه قد تغيّر؛ ربما كبر أكثر؛ أو ربما ارتسمت العزيمة على تقاسيم وجهه الملائكي. رجع محمد مجاهداً يحمل في شخصيته أبعاداً حيرت كل من عرفه، فعلاقته الروحية مع الله عز وجل والنبي وآل بيته الأطهار عليهم السلام قد تجللت بنورانية تركت العديد من علامات الاستفهام، عُرف منها ما أخبر به الشهيد علي ذيب حيدر بعد استشهاد محمد؛ أنه عندما أنهى يوماً صلاته، وبعد قراءته لزيارة الإمام الحجة عجل الله فرجه رفع رأسه ليراه أمامه كوكباً من نور يرد السلام عليه.

لقد زخرت حياته العبادية والجهادية بالأسرار، فهو عاشق المحاور، والمشارك الأساسي في العديد من العمليات العسكرية، ومن في الجنوب لم يعرف "عبد العزيز"؟ من منهم لم ير ابتسامة ثغره كأنها البدر في ليلة ظلماء تنير القلوب برذاذ السكينة؟ من لم يسمع نشج صلاة الليل، وأنين الدعاء، ولوعة الشوق؟ من لم يرَ دموع الحسرة تشق أخاديدها بعد استشهاد روحه التي بين جنبيه "علي"؟ كيف سبق "علي" "محمداً" وهو الأخ الأصغر الذي لا تزال خطواته طرية في طريق الجهاد؟ سؤال اختلج دوماً في قلب محمد، ولكنْ؛ أوَليس علي تربية محمد؟ أليس علي من كان يعتمد عليه في شؤون حياته الخاصة وبعض التفاصيل السرية التي تشاركاها؟ لن يعرف أحد أي منهما كان سر الآخر؛ فكلاهما يزخر بالأسرار.. في الجنوب؛ يعبر من تلٍّ إلى جبل، ومن عملية نوعية إلى هجوم واقتحام مواقع، مع عزيمة حسينية كلما ضخت في شرايينه الدافع للحياة، ازدادت بسالته، وقد وسم جسده بإصابة أثناء قيامه بمهمة جهادية. وفي بيروت: يطل وجهه البري‏ء، ليملأ دنيا عائلته بالحياة، فهو لا يهدأ، يتنقل من مكانٍ إلى آخر، ويطمئن إلى أحوال الجميع، يقفُ ليسند والده، وليأخذ من ظله القوة والصلابة، ويهتم بإخوته وأخواته، ويتفقد الرفاق المنتظرين لكتفه يخفف من تعب أيامهم، ويقضي أجمل الأوقات بين ولديه "بتول" و"علي" الطفل الذي لم يجاوز عمره آنذاك السبعة أشهر من زوجته الأولى التي أخبرها في آخر مرة أنه سيترك لها رجلاً، فاستغربتْ منه ذلك، فيما كتب إلى زوجته الثانية والتي كانت حاملاً ولم يكن يعرف جنس الجنين: "تحياتي إليك وإلى ولدي عباس"..

قبل استشهاده بفترة قصيرة جداً، لبى محمد ووالده دعوة وجهتها الجمهورية الإسلامية لهما، وهناك، وخلال عدة لقاءات مع عوائل شهداء وإخوة مجاهدين في التعبئة، ترك محمد في قلوب الجميع لمسةً نورانية. وأثناء تشرفه بلقاء سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي حفظه الله طلب إليه أن يُقدم له هدية، فطلب الإمام من أحد الإخوة أن يحضر خاتماً من مكتبه، فلم يصدق محمد نفسه عندما وضع الإمام الخاتم المبارك في إصبعه وطبع على جبهته قبلةً سمحاء، ليزداد مكان السجود قداسةً. كان محمد يُعلّق الخاتم على الباب ليتبرك به المجاهدون، وقد فُقد الخاتم بعد أسر الجثمان الطاهر مع بقية الأغراض التي كانت بحوزته. لاحظ الجميع أن وجه محمد كأنه كوكب دري في شهر رمضان المبارك، وقد طلب إلى الإخوة السماح له باللحاق بالإخوة المجاهدين في الجنوب، غير أن الإذن لم يصل. كانت عاصفة ثلجية قوية قد عصفت بلبنان، فلم يطق صبراً، ولم يستطع تحمل البقاء في بيروت، كان يبكي ودف‏ء البيت يتسلل إليه، ويتذكر برد رفاقه بين الثلوج، وأصر على الرحيل، فحزم الحقائب ومضى..

كانت ليلةُ القدر الأولى، وفجر اليوم الذي أجهضت فيه الشمسُ حياة نهار جديد.. الدم المنسكب في محراب الكوفة من رأس أمير المؤمنين عليه السلام يحتضن الدم المضرج على تراب عاملة، ليترك محمد بتوقيت استشهاده سراً جديداً من أسراره.. تمزق جسد محمد قبل ثلاثة عشر يوماً من إنجاب زوجته الثانية طفله عباس؛ لم يحضنه، ولم يشعر بنداوة جسده، ولكنه ترك اسمه توقيعاً غريباً في الوصية: "أبو علي عباس".

من كلماته: "نحن لا نعيش في أزمة.. بل نحن الأزمة، لأن عطاءنا الدم.. والدم لا يملك تراجعاً إلى الشرايين والأوردة.. والدم ليس أموالاً قابلة للإنفاق والاسترداد.. والدم ليس بكلام ليل يمحوه النهار.. والدم ليس دموعاً امتهنت العيون ذرفها في مجالس المناسبات والتذكر.. والدم ليس صفقةً تعقد خلف الكواليس".


(*) من كلام للشهيد محمد أشمر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع