مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أوّل الكلام: يا رسول الله... مصابنا بك جليل

السيّد ربيع أبو الحسن


تمرُّ ذكرى رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الثامن والعشرين من صفر، حاملةً تلك اللوعة التي تُشعرنا بعظم المصاب الذي ألمّ بالأمّة بغيابه صلى الله عليه وآله وسلم عنها، ما يظهر جلياً عند التأمّل في ما أظهره أقرب الناس إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وأصدقهم تعبيراً عنه؛ أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء عليهما السلام، إذ ليس ما صدر عنهما (روحي فداهما) يمثِّل حالة الوَجد غير الرساليّ، بل كان حزنهما وبكاؤهما رساليّاً نابعاً من معرفة الخسارة التي ألمّت بالأمّة بغيابه صلى الله عليه وآله وسلم عنها؛ حتّى عُدّت سيّدة نساء العالمين عليها السلام من البكّائين الخمسة مع أنّها لم تبكِ أباها صلى الله عليه وآله وسلم سوى عشرات الأيّام!

فلنقرأ ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ الله، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ، مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، ولَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، والْكَمَدُ مُحَالِفاً، وقَلَّا لَكَ، ولَكِنَّه مَا لا يُمْلَكُ رَدُّه، ولا يُسْتَطَاعُ دَفْعُه. بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، واجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ"(1).

فمصيبة رحيله صلى الله عليه وآله وسلم خصّت أهلَ بيته، فباتوا لا يكترثون بما يصيبهم بعدها، ولا بما أصابهم قبلها، وعمّت الناس أيضاً، فلا يصاب أحدٌ بمثلها؛ فصارت مسلّية عن كلّ مصيبة دونها، وإن كانت كبيرة. وإلى ذلك أشار الإمام الباقر عليه السلام بقوله: "إن أُصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك، فاذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قطّ"(2).

ويشير أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه المتقدّم إلى العذر في ترك البكاء الكثير، ومماطلة الداء وملازمة الحزن، وهو أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر في مواطن المكروه، والنهي عن الجزع عند نزول الشدائد. وكنّى عليه السلام عن كثرة البكاء بإنفاد ماء الشؤون (إفناء منابع الدمع ومجاريها)، وبالداء عن ألم الحزن بفقده صلى الله عليه وآله وسلم، واستعار له لفظ المماطلة؛ كأنّ الحزن وألمه لثباتهما وتمكُّنهما لا يكادان يفارقانه مع أنّ من عادتهما أن يفارقا المصاب، فهما كالمماطل بالمفارقة. مفاد كلامه: أنّ الحزن والألم قليلان لفقدك يا رسول اللَّه، ولكنّ الموت الذي لأجله البكاء والحزن ما لا يُملك ردّه ولا يُطاق دفعه، فكان لزوم الصبر أَوْلى.

ومن كلامٍ له عليه السلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة دفنه: "إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلَّا عَنْكَ... وإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وإِنَّه قَبْلَكَ وبَعْدَكَ لَجَلَلٌ (لحقير)"(3).

أمّا عزيزته وحبيبته السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، فإنّها كانت لا ترقأ لها عبرة، ولا تهدأ لها حسرة، فاتّخذت بيتاً للأحزان، فكانت فيه إلى أن مضت إلى ربّها. وقد روى الذهبيّ أنّها عليها السلام مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدّة من الزمن وهي تذوب(4).

إنّ رحيل رحمة الله المُهداة إلينا(5)، التي كانت تمشي على الأرض، من أعظم المصائب على أمّته. وتأتي هذه الذكرى بحزنها وشجنها بعد أربعين الإمام الحسين عليه السلام لتعيد لنا عهداً مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ربّما ما عرفه إلّا فاطمة وعليّ عليهما السلام.


1.نهج البلاغة، مِنْ كَلاَمٍ لَه عليه السلام قاَلَه وهُوَ يَلِي غُسْلَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وتَجْهِيزَه (235).
2.الكافي، الكلينيّ، ج3، ص220.
3.نهج البلاغة، (م.س)، مِنْ كَلاَمٍ لَه عليه السلام قاَلَه على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة دفنه (292).
4.راجع: سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، ج2، ص128.
5.أُثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قولُه: "أيّها الناس، إنّما أنا رحمةٌ مهداة"؛ كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج11، ص445.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع