عدي الموسوي
الجهاد، التضحية، الشهادة ثلاث مفردات أساسيّة ميّزت التجربة الجهادية للمقاومة الإسلاميّة، وكانت منطلقاً لإنجازاتها الباهرة والمتألقة. وهي عناصر أسهمت في التأسيس لثقافة النصر.
النصر مفهوم قرآني:
ثقافة النصر وأسسها كانت عنوان الحوار الذي أجرته بقية الله مع نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، الذي بدأ حديثه بتوضيح وتعريف النصر بحسب المفهوم الإسلامي، فقال: شاع بين الناس وفي مختلف الأدبيات مفهوم عن النصر، قائم على أساس أنّه تعبير عن الفوز المادي وكسب المعركة بالغلبة والاستحواذ على العدو.
أمّا الإسلام، فقد جاء ليوسّع من دائرة مفهوم النصر ليتجاوز الخصوصيّة الماديّة، ليصل بالنصر إلى مستوى الثبات على المفاهيم، والاستقامة في الخط وإنجاز الصبر في المعركة ضد الباطل، لامتلاك القدرة المستقبليّة على النصر. وأدخل الإسلام ضمن مفهوم النصر فعل الاستشهاد الذي يمكن أن يكون طريقاً لمنع الخصم من تحقيق أهدافه عبر تقديم الدم قربى لله تعالى. بهذا الاعتبار، فالنصر هنا مفهوم قرآني، لأن الله تعالى عندما حدّثنا عن بيع النفس والمال في سبيل الله تعالى، اعتبر أن إنجاز التكليف عند المرء إنّما يتحقق بعدم السؤال عن النفس والمال إذا كان الأمر مرتبطاً بالهدف الكبير، وهكذا تتجلّى المقايضة بين الإنسان وربّه، موضّحة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111)، بمعنى أن البيع الذي يقوم به المؤمن سيكون ثمنه الجنة في حال الشهادة، وهو في آنٍ معاً يمكن أن يكون نصراً دنيويّاً. على هذا الأساس، لم يبقَ مفهوم النصر محصوراً في دائرة الانتصارالمادي، وإنّما توسّع. ففي موقعة كربلاء مثلاً، إنّما نقول بأن الأمام الحسين عليه السلام قد انتصر، لأنّه ثبّت خط الاستقامة الإسلاميّة في مقابل خط الانحراف الذي أراد شرعنة الحكم الظالم، فكانت شهادته عليه السلام انتصاراً لهذا الخط، اي نصراً بحسب المفهوم الإسلامي.
نصر الفرد ونصر الأمة:
* من خلال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، كيف يمكن للمؤمن أن ينصر الله، كي يحقق له تعالى النصر لاحقاً؟
ـ إن النصر على نوعين: نصر الفرد ونصر الجماعة. فالفرد منتصر على كل حال إن قام بواجبه وتكليفه، فإمّا أن يتم النصر عبر نصر مادي واضح، أو عبر الاستشهاد في سبيل الله لينال الجنة، وذلك بحد ذاته فوز ونصر. أمّا الجماعة، فلا يمكنها أن تفوز وتنتصر إلاّ إذا وفّرت جميع مقدّمات ومقوّمات النصر الخاصة بالجماعة. فعلى صعيد نصر الفرد، يبرز نموذج الإمام الحسين عليه السلام الذي انتصر من خلال سعيه للإصلاح، ومن ثم استشهاده. في المقابل، لم تنل الجماعة أو الأمّة نصرها، لأنّها قصّرت في اتباع منهج الحق ودعوة الإمام الحسين عليه السلام. هذا مع الإشارة إلى أن نصر الأفراد كثيراً ما يتراكم ليؤدي إلى نصر الجماعة كما في حالة الإمام الحسين عليه السلام أيضاً، حيث تحوّلت كربلاء إلى حالة راسخة في ضمير الأمّة، حطّمت مشروع بني أميّة وأوجدت مشاريع الحركات الثوريّة التي كانت تداعياً لشهادة الإمام الحسين أو انتصاره الفردي.
الجهاد حماية للدين:
•من الملاحظ أن المسلمين في أغلب المراحل قد واجهوا خصوماً وأعداء يفوقونهم عدداً وعدة، فهل هذا ما جعل قيم التضحية والصبر والشهادة راسخة في ثقافتهم؟
ـ لقد قام الدين على عنوان الإيمان، وعلى حمايته بالجهاد في سبيل الله. الجهاد في الإسلام كشعيرة اساسيّة هو جزء من حماية الدين وحماية مجتمع المتديّنين، وبغيره لا يمكن إيقاف سيطرة الكفر، ولا يمكن منعه من تحقيق أهدافه، وبالتالي نجد أن الحث على الجهاد يصل إلى درجة يوضع فيها في مقابل الأمور الدنيويّة التي يعيشها الإنسان بشكل مباشر ويومي، فيقول تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).
إذاً، فسبحانه قد وضع ثماني مفردات دنيويّة من الابن والأخ وغيرهما وضعها في كفة واحدة، ووضع بالمقابل الإيمان بالله تعالى ورسوله والجهاد في سبيل الله. فإذا ما منعت تلك المفردات الدنيوية من إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله على نهج نبيّه صلى الله عليه وآله، فهذا يعني أن هناك انحرافاً ما. وهكذا، نلاحظ أن التركيز على الموضوع الجهادي أساسي وأصلي حمايةً لدين الإسلام، وهو ما يتوضّح عندما تحدّث الرسول صلى الله عليه وآله عن مستويات عطاء الإنسان، ليعتبر أن أعلى هذه المستويات هو الشهادة في سبيل الله تعالى، فيقول صلى الله عليه وآله: (فوق كل ذي برٍّ بر، حتّى يُقتل في سبيل الله فليس فوقه بر).
أمّا أمير المؤمنين علي عليه السلام فاعتبر "الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه"(1)، بمعنى أنّ للجهاد كرامة لا يبلغها إلاّ من وصل إلى مرتبة عالية من الإيمان.
التضحية بذْل إرادي
•نبقى في عالم توضيح المصطلحات وتعريفها، فننتقل إلى مفهوم التضحية، فهل التضحية وفق الرؤية الإسلاميّة هي مطلق البذل، أم هو الاستعداد له عند الحاجة؟
ـ قيمة التضحية هي في أن تكون في محلّها وفي وقتها، ومن أجل الأهداف النبيلة. وبالتالي لا نستطيع أن نقول تضحية عندما يكون الإنسان في موقع إلزامي، ويبتلى ابتلاءً بغير إرادة منه. هنا لا يسمّى الأمر تضحيةً، بل ابتلاء يؤجر ويُثاب من يصبر عليه. أمّا التضحية، فهي بذل بإرادة ولو ادّى ذلك إلى بذل المال والنفس، يقول تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (التوبة: 41)، فالأمر ليس مقتصراً على نمط معيّن، إنّما هو استعداد لإعطاء كل شيء في المكان والزمان المناسبين ومن أجل القضيّة المناسبة.
خط متكامل مترابط
•إذاً، في معادلة النصر لدينا ثلاثة عناصر: الجهاد، التضحية، الشهادة. فما هي العلاقة التكامليّة بينها لتتحقق معادلة النصر؟
ـ عند الحديث عن هذه المفردات الثلاث، نجد بينها خطاً متكاملاً ورابطاً، يبدأ هذا الخط بالجهاد؛ فالجهاد هو استعداد نفسي للمواجهة خلال المعركة، وهو استعداد يفترض وجوده أصلاً عبر جهاد النفس، لأن الترجمة العمليّة للتضحية في المعركة هي وجود حالة من جهاد النفس استعدّت للاستماع لأمر الله تعالى، وإلى التكليف الشرعي، وكانت حاضرة للعطاء والقتال والمواجهة. وعندما يكون هذا الاستعداد موجوداً، يبدأ المسار العملي وهو الخطوة الثانية، والمسار العملي هو التضحية، لأن طريق الجهاد هو طريق محفوف بالأخطار، يمكن أن يؤدي إلى الجرح أو الثكل أو خسارة المال والولد أو أي أمر يحبّه المرء ويتعلّق به في دنياه. هنا، تكون التضحية خطوة تطبيقيّة للإيمان بالجهاد، فقد تجد من يعتقد بقدرته على الجهاد ويعلن إيمانه به، ولكن عند تعرّضه للامتحان يتراجع ولا يتابع المسير، وهنا نعرف من هو مستعد لبعض التضحيات ولكن دون الوصول إلى الشهادة التي هي الخطوة الثالثة في هذه المعادلة. وحتى في سعي الإنسان للشهادة، فالمسألة متعلّقة بالأجل الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.
ثقافة المقاومة:
•بعد انتصار التحرير في العام 2000 وبعده في نصر العام 2006، برز إلى التداول مصطلح ثقافة النصر والانتصار. كيف تنظرون إلى هذا المفهوم؟
ـ أسجّل هنا أن ما قدّمه شباب المقاومة الإسلاميّة وجمهورها بمختلف مستوياته وشرائحه، هو أمر مستغرب في عرف الناس في الحياة المعاصرة، أولئك الذين اعتادوا على الحياة الماديّة والترويج لها ولثقافتها ولثقافة الحرص على كلٍّ من الجسم والجمال والقوة والفرح وغيرها من العناوين الدنيويّة، وبالتالي فهؤلاء وجدوا أن ما قدّمته المقاومة الإسلاميّة هو مسار مختلف ويتعارض مع المسار المادي العام ويسلك مسلكاً غير مألوف لديهم. لكن من نتائج مسار المقاومة الإسلاميّة أنّها حققت انتصاراً على إسرائيل القوة الأكبر في منطقتنا القوة المدعومة دولياً على المستويات كافة، وهذا ما أوجد معادلة غريبة: كيف يمكن لقلة أن تتغلب على كثرة؟ وكيف يمكن لضعف أن يتغلّب على قوة؟ وكيف يمكن لجهة معزولة عن التأييد الدولي أن تخترق هذا التماسك الدولي وتجمّد المشروع الإسرائيلي وتلحق به هزيمة نكراء؟! كان هذا الأمر عجيباً بالنسبة إليهم، وفي آن معاً هم لا يريدون أن تنتشر. ومثل هذه الثقافة التي هي ثقافة الحياة العزيزة، ثقافة الشهادة الممزوجة بالعز، هم لا يريدون انتشارها لإنها عند ذاك ستحرّك المنطقة بأسرها، وستكون نموذجاً للعالم، وبالتالي ستواجه ثقافتهم الماديّة وتدخل في صراع ينحو تدريجيّاً إلى نوع من التوازن، ليصل بعدها إلى مرحلة السيطرة.
من هنا، شنّ هؤلاء حملة ثقافيّة إعلاميّة سياسيّة مركّزة ليتحدّثوا فيها عن ثقافة الموت في مقابل ثقافتهم التي اعتبروها ثقافة الحياة، ليرعبوا الناس بالتسمية، مع العلم بأن هذه الدعاية لم تنطلِ على الأغلب، ولم تؤثر أثرها، ذلك أن الذين عرفوا جيداً ثقافة المقاومة يعرفون تماماً أنّها ثقافة الحياة العزيزة. هنا كانت ثقافة المقاومة وانتصارها قادرة على أن تكون حالة فعّالة ومؤثرة، لأنّها تُرجمت انتصاراً باهراً على أرض الواقع، وهو ما شكّل وسيلة إقناع مهمّة وجنّبنا بذل الجهد للترويج لها عبر انتصاري العام 2000 والعام 2006، فإذا بهذه الثقافة تتجاوز التعقيدات التي أحيطت بها والتشويش الثقافي والسياسي، فصارت ثقافة مقبولة بل ومرغوبة، وها هي اليوم تعبّر عن نفسها في فلسطين الحبيبة من خلال تضحيات أهلها، هذا فضلاً عن تصاعد الدعوات لنشر هذه الثقافة في مختلف دول المنطقة.
مِن عوامل النصر:
•إذاً، يمكننا أن نعتبر النصر تجلّياً لثقافة النصر؟
ـ يجب أن نؤمن بأن النصر حليفنا دائماً، فعندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47)، فهذا يعني أن انتصار المؤمن هو أمر حتمي لا مفر منه، وهو ما يؤكده قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5). هذه الآية وغيرها تؤكد بأن النتيجة هي انتصار هذا النهج وحَمَلته في هذه الأرض. ولكن إذا لم يتحقق نصر المجموعة هنا أو هناك، فالسبب هو تقصير الناس وعدم ارتباطهم الصحيح بعوامل النصر التي من أُسسها الاستعداد للجهاد والتضحية والشهادة. من هنا، فنحن نعتبر النصر مسألة محسومة ونحن موعودون بها بأن يأتينا النصر شاملاً عاماً على يد الإمام المهدي عجل الله فرجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وذلك في قيام المشروع الإلهي الكبير في نهاية المطاف، وهو ما يمكن أن يُسبق بانتصارات لجماعات متعددة، سواء أكانت ذات انتصارات واسعة أو محدودة بعد توفيرها للشروط المطلوبة.
البعد المعنوي في المقاومة:
•كيف يمكن لثقافة النصر ومن خلال تجربة المقاومة الإسلاميّة أن تعمم اليوم ويؤسس لها في الثقافة المعاصرة؟
ـ المقاومة الإسلاميّة في لبنان فرضت نفسها عالمياً، وتحوّلت إلى عنوان للدراسة، سواء أكانت الدراسة بقصد المواجهة، أو من قبل المتشوّقين للحرية والمستقبل الواعد للاستفادة من مضمونها وآفاقها، فلم يعد تأثير المقاومة محصوراً في بقعة جغرافّية صغيرة، بل تجاوزه إلى المستوى الإقليمي، لا على المستوى السياسي فحسب، بل على المستويات الثقافيّة والتربوية والأخلاقية. ففي حين نجد العالم اليوم يعيش حالة من الخواء الروحي، فإنّ المقاومة الإسلاميّة قد بثّت تلك العلاقة الروحية بين العبد والخالق. عندما نستعرض حالة الشباب المقاوم على جبهات الجهاد، نسمع كيف هم بين يدي ربّهم سبحانه خاضعون باكون مصلّون، وبالمقابل، كيف يواجهون أعداءهم كالأسود، وهو ما يدل على انعكاس البعد المعنوي على أدائهم المادي أو العسكري.
إذاً اليوم، ثقافة النصر أو قل ثقافة الجهاد والمقاومة أصبحت تشق طريقها بفعاليّة وقوة. وأنا أدعو الجميع لمراقبة ما يجري اليوم في منطقتنا العربية والإسلاميّة ومقارنته بما كنّا عليه قبل 100 سنة إلى ما قبل ثلاثين سنة، أي منذ بداية القرن العشرين وحتى انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران. كنّا في وضع صعب جداً، وكان الانحدار على المستوى الإسلامي كبيراً، حيث غُزيت الثقافة الإسلاميّة بمختلف الأفكار المادية والإلحادية لتحاول تقويض هذه الثقافة وتفريغ مضمونها، إلى أن أقبل الإمام الخميني قدس سره ليعيد الحيويّة للإسلام عبر ثورته المباركة، ثم جاءت التجربة الرائدة للمقاومة الإسلاميّة في لبنان، لنرى أن الحضور الجهادي المقاوم يبث حالة معنوية وقدرة عملية مثبتة عبر إنجازات وانتصارات، ما يعني أننا الآن في عصر انتشار ثقافة الجهاد والمقاومة والنصر.
(1)وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج15، ص14.