مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

القوانين العامة بين المواطن والدولة

تحقيق: لنا العزير



قد ينقسم لبنان إلى مناطق ومحسوبيات في السياسة، إلا أنه في مخالفة القوانين يتّحد الشعب اللبناني اتحاد قوة لا تفكّها سوى أقليات، يُنظر إليها بغرابة كمن لا يُتقن اللغة نفسها.  المخالفات العامة وبتعبير آخر مخالفة القوانين العامة باتت أقرب ما يمكن في بلدنا هذا إلى العرف الغالب على القانون.

* مخالفات ومبررات!
مشهد هنا لسيارة تشعّ فخامة أقفل زجاجها هرباً من تلوّث المدينة، تراها تشقّ نافذة إلى فضاء المدينة لترمي فيها بقايا ما استهلكته من سجائر أو مأكولات. وهناك وسيلة نقل عمومية تخلّف دخاناً أقل ما يورثه هو السعال الشديد، وغيرها من تلك المخالفات البيئية. أما في عملية انتهاك الأموال العامة من منتزهات وكهرباء وبلديات، فكلها مخالفات يجد من يرتكبها آلاف المبررات، التي قد يصل فيها المستمع إلى حدّ الاقتناع أو حتى التقليد في المخالفة. فللكهرباء ظلمات تؤجج قلوب الناس ليخوضوا المخاطر من أجل لحظات من النور، وفي الماء تلوث بمختلف الأشكال، ملح وكلس هذا إذا وُجدت المياه أصلاً، ونحن في بلد تبلغ تكلفة الليلة الواحدة في أحد فنادقه مئات الدولارات، ويسجل أكبر النسب في الرفاهية بالنسبة إلى عدد سكانه، في حين نجد في المقلب الآخر من لا مأوى له لينتمي إليه. فعندما سألنا (فؤاداً) لماذا لا تلتزم بالقوانين العامة للدولة؟ توقعت جواباً، إلا أن ما سمعته كان سؤالاً أشد، وأية دولة؟! الدولة التي لا أجد فيها ماءً لأشربه أو كهرباء؟! الدولة التي أعيش في ظلها تحت عنوان الإيجار؟! هل يمكن لمن لا يمتلك مأوى أن يملك في قلبه وطناً؟!

* الضابط والمخالف
في مسألة مخالفة القوانين العامة عدّة أوجه أو مجموعة أطراف مشتركة، وهي: القوانين، الدولة وبمعنى آخر ضابط القانون، والمخالف، والمتضرّر غير المخالف.  في وقوف لبعض الدقائق على ناصية إحدى الطرقات يُمكن لأي امرئ أن يرصد العديد من المخالفات المتنوعة في الشكل والمضمون، فمن النظافة العامة، إلى السرعة والدخان المتطاير من السيارات، إلى المياه الآسنة التي تمتدّ أمام بعض المحال، إلى كابلات الكهرباء المتدلية فوق رؤوس المارة مهدّدة بخطر قادم بعد حين.  ولم لا أخالف؟ هذا ليس سؤالاً، إنه جواب أحد المواطنين اللبنانيين الذين باتوا يعتبرون القانون من مظاهر سنن الغاب التي تنطبق على الضعيف ليكون من غنائم الأقوياء.

أبو علي سائق شاحنة منذ الثمانينيات بات يعرف طرقات لبنان ككف يده، فيقول عن خبرة: "المخالفة في بلدنا تبدأ من رأس الهرم، فأنا أقول وعن يقين إنه طالما أية مخالفة سير تُحلّ برشوة شرطي السير، فإن القانون لن يحكم. لو نظرت إلى رخصة القيادة خاصتي لما وجدت مخالفات، ولكن نحن يومياً على الخط ونرى كل ما يجري من سياسات على الأرض. وفي أية معركة إذا كان الضابط أمام العسكر، تجد الجندي يتفانى في التقديمات، ولكن إذا كان الزعماء في بلدنا يسرقون البلد ويسرقون حقوقنا، كيف نلتزم نحن بالقانون؟!" هذا ما قاله وهو أشبه بمن ابيضّ رأسه خبرة بقانون السير المُعاش ليردف "إما أن تُمطر على كل الأسطح أو تكون مشمسة على الكل، هكذا فقط تنتهي المخالفات".  "عن أي قانون تتكلمين؟! القانون الذي يتمكن فيه الضرير من حيازة إجازة سوق؟! هل هذا هو القانون الذي سيعاقبني إذا ما ارتكبت مخالفات"؟! هكذا تدخل أحمد مستنفراً "لو كانت هناك محاسبة لما خالف أحد النظام، أما ما دامت "كبسة اليد" أي الرشوة تحلّ المشكلة ككل، ستبقى المخالفات عرفاً قائماً بتنا نعتاد عليه". في النظافة العامة كان هناك تقاربٌ بين الآراء، حيث اتفق من سألته على كون الوازع نفسياً، وهذا كان رأي "وداد" التي اعتبرت أن كل الكلام عن المخالفات هو حجج يُطلقها أصحابها لتبرير مخالفاتهم "فلو بدأ كل فرد باتباع النظام منفرداً كأخلاق يدين بها، لما وجد حجة واحدة لمخالفة النظام". كما قالت ملاك "لو كان من يخالفون السير مضطرين مادياً لذلك، فما هي حجة من نراهم يقتحمون الأرصفة بسياراتهم، ويقودون بسرعة جنونية؟! عدا "الزمور" الذي لا يفارق مسامعنا، ففي سوريا المستوى المعيشي للفرد أقل من لبنان، ولكن بدءاً من بعد الظهر، لا تسمع "زموراً" واحداً، فكل حجج المخالفات قد تنحصر في مكان ولكن لا تغطي مختلف المخالفات".

* ...والكهرباء
أما الكهرباء، فيقول أبو آدم إن محطة الكهرباء في منطقته تعطلت منذ ما يقارب العامين ولا أحد يعمل على إصلاحها، "وقد استمررت لفترة طويلة مستخدماً مولداً كهربائياً رافضاً أن ألجأ إلى سرقة الكهرباء، ولكن لم يبقَ أمامي سوى أن أخالف في هذا الجانب، والمضحك في الأمر أن جابي الكهرباء لا يزال يأتي ليأخذ اشتراك عداد الكهرباء". وتُضيف وداد "أنا أتضرر كثيراً من مخالفات الكهرباء، لأنني مع أني لست مخالفة، إلا أن محطة الكهرباء في منطقتنا تحترق كل حين بسبب الخطوط المخالفة، ولكن لا أستطيع أن ألوم أحداً، لأنني لو بحثت في وضع المخالف المالي لوجدت أن ما يحصل عليه هو أقل من أن يكفي فاتورة الكهرباء والماء وإيجار المنزل، فما بالك بالحاجات المتبقية للمعيشة؟!". بلدٌ فيه من الغرابة ما فيه، إلى حد يُصبح فيه المتضرر يُحيك تبريرات للمخالف، تراه بلداً تجذّرت فيه المخالفة إلى درجة أصبحت فيها الواقع الغالب على الحياة العامة.  زياد الذي يعيش في منطقة ميسورة وتعتبر من المناطق الراقية، لا يشكو أهلها من ضائقة مادية، إذ لا يوجد فيها الحرمان الريفي، ولا الإجحاف المناطقي، يقول "نحن لا ننام طوال الليل من الدراجات النارية التي يبدأ أصحابها نشاطهم اللاأخلاقي بعد منتصف الليل، حيث يقوم الأولاد مذعورين". أما من حيث النظافة العامة، فيستنفر أبو آدم منتفضاً "إن قلة النظافة في مجتمعنا سببها الأول والأخير هو التربية الخاطئة، والتي بات يتفاخر فيها المرء بأنه لا يخاف أحداً". علينا أن نخجل من أنفسنا أولاً "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا"، وليس خرق القانون العام إلا ذنباً يُحاسب عليه الخالق، ولو تغاضى عنه الأمين على تطبيقه.

* أسباب المخالفات والمبررات
بعد الاستصراحات التي استقيناها من الناس أنفسهم، كان لا بد من سؤال من يملك إجابات وليس تبريرات لأسباب هذه المخالفات التي باتت لأحقيتها تكاد تكون مقنعة. من هنا كان لقاؤنا مع الأستاذ توفيق سلوم، ماستر دولي تنفيذي في التنشيط النفس - اجتماعي للمجتمعات التي مزقتها الحروب (ممارس في البرمجة اللغوية العصبية NLP ) وكان سؤالنا الأول: عند طرحنا الأسئلة على مجموعة مختلفة في ثقافتها حول مخالفة القوانين العامة، رُدّت علينا أمطار من التبريرات، ومعظمها كان حول المنافع العامة، فأين يكون برأيك مصدر هذا السلوك الذي جنح ليُصبح عرفاً في مخالفة القوانين العامة؟ القانون ليس قاعدة تقولها جهة فتُسمى الدولة، أو نصاً تقوله جهة فتُسمى الشرع؛ وهذه هي النظرة الأغلب عند الناس. فإذا كان عندي موقف معادٍ لهذه الجهة أو تلك (دولة أو شرع)، أرفض تطبيق أي قانون يصدر عنها لمجرّد كونه صادراً عنها، بغض النظر عن المنفعة العامة التي سوف أحصّلها من مثل هكذا قوانين. هذه الفكرة الأولى للقانون، وأقولها لأن معظم الناس في مخالفتهم للقانون يكون السبب الأول لديهم هو الموقف من واضع القانون. أما الأمر الثاني الذي يُعتبر أساساً في مخالفات القوانين العامة، فينطلق من المنزل، ففي المنزل هناك أهل وإخوة، وعندما يوجد الأبوان الحاجيات، منها ما يكون منفعة فردية، ومنها ما يكون منفعة مشتركة للجميع.

فإذا كان الأبوان لم يُدخلا العامل الثالث وهو تنظيم حركة الأشياء المشتركة في المنزل، سينتقل هؤلاء إلى دائرة أكبر وهي المبنى الذي فيه عدد من السكان ويسيطرون على المصعد كما نرى في معظم الحالات، كأن "يحجز" أحدهم المصعد إلى حين خروجه، وهذا الفرد نفسه عندما سينتقل إلى الشارع سيكون تعامله مع الكهرباء والماء وشرطي السير على أساس أن السلطة ليست عنصراً ثالثاً وإنما هي عنصر دخيل. وهذا ينطبق على من يرمي النفايات في الشارع، لأنه لم يكن يعرف في البيت أنه لا يحق له أن يرمي نفايات على سرير أخيه أو حتى في الغرفة المشتركة معه، وذلك عدا عن العنصر الجمالي الذي يحكم الشخص، وهو أنه من الطبيعي أن تكون الغرفة أو الحديقة العامة أو البلد نظيفة، لكونها يجب أن تكون جميلة أكثر من كونها مشتركة.  هذا العنصر الثالث والذي يبدأ من كونه أماً وأباً كسلطة وليس كقوة إن لم يتم وجوده بالطفولة، هناك صعوبة كبيرة لوجوده فيما بعد ويُصبح إيجاده تماماً كطريقة الأم والأب عندما يفقدان السيطرة على أولادهما فيلجآن إلى القوة ليُخضعا الأولاد لقرارهما تحت وطأة القوة. وهذا ما نراه في تطبيق بعض القوانين عند الكبار، كحزام الأمان مثلاً، لا يضعه الناس إلا عندما يرون الشرطي، لأنهم لا يحترمون السلطة بل يخافون القوة التي ستجبرهم على دفع غرامة مالية.

* إسراف لا يُبرر
* هناك من يلجأ عادة إلى تبرير مخالفاته بإلقاء اللوم على الدولة لأنها مقصّرة، وأنه يستولي على الكهرباء أو الماء وهذه المنافع العامة ليسدّ حاجته، فما الضرر بذلك؟
ـ أريد أن أسأل هذا الشخص، هل عندما يخالف للاستفادة من هذه المنافع (كهرباء وماء...) تكون استفادته بقدر حاجته فقط، أم أنه يعود تلقائياً إلى معاقبة المشرّع (الدولة) فيُسرف في استفادته؟ لقد تم توزيع كل المنافع العامة من أجل أن يستفيد منها الجميع بصورة منتظمة، ولكن مثلاً في حالة انقطاع الكهرباء، يقوم من "تُقنّن" عنده الكهرباء بالاستيلاء على كهرباء من الشارع الثاني، فتكون النتيجة أن "الترانس" أو محوّل الكهرباء يتوقف أو قد يحترق في بعض الحالات، وبذلك يكون قد حرم عدداً من الناس من منفعته الخاصة بالكهرباء وبالتالي حصل التصادم، فهو عندما استولى على الكهرباء لم يأخذها من الدولة وإنما أخذها من حق جاره في الشارع الثاني، وإذا لم يكن هناك قانون للمحاسبة سيتصادم مع جاره المسلوب حقه. 
 

فإذاً، أي تجمع بشري (وإن كان مكوناً من اثنين) إذا لم تكن هناك سلطة قانون لمنع التصادم فيه سنُصبح كمدينة العميان، سرقة تتبع سرقة.. الجميع يسرق: المواطن والنائب والوزير والشرطي والبلد يقع تحت ديون، فمن يسرق ليوفّر 20 ألف ليرة فاتورة كهرباء يدفعها على شكل ضريبة الدين العام 45 ألف ليرة.

* هل مخالفة القانون تبقى في دائرة المخالفة أم لها أكثر من جانب؟
ـ عندما أخالف القانون مع الدولة لا أحد يُصدّق أني لا أخالف الشرع، لأن الفرد الذي اعتاد أن لا يحترم السلطة لا يحترمها بأية صورة كانت أكانت شرعاً أو أسرةً. ولا يجب أن يغيب عن أذهان الجميع أن هناك آثاراً جانبية كبيرة تترتب من جراء هذه المخالفات، لأن الأب عندما يسرق الكهرباء مثلاً تبعاً لتبرير أن الدولة مقصّرة، فإبنه سيسرق منه، بالحقيقة نحن لسنا سوى كاميرات تُسجّل الأحداث وتُعيدها وفق وضعية تُناسبنا.

* حق الشراكة مع الآخر:
* ولو قال البعض إنه اقتنع بهذا الفكر، فماذا يفعل ليعود إلى طوعة القانون، وإلى القناعة بأن مخالفته بسبب الحاجة لهذه المنافع وليس كرهاً بالقانون أو المشرّع؟
ـ نقول هنا إنه في المنافع العامة قد يجد البعض الكثير من التبريرات حول الماء والكهرباء، ورغم كونها غير منطقية، ونسأل هذا الشخص لماذا تُخالف قانون السير؟ لماذا ترمي النفايات في الطريق؟ هل في ذلك منفعة لك؟ وعليه أن يعترف أنه لا يسرق لا ماء ولا كهرباء ولا حتى يُخالف السير بدافع الحاجة، وإنما يعود ذلك إلى نمط التفكير الذي يجب أن يبدّله وهو عدم حفظ مجال للآخر واحترام حق الشراكة معه. أما البديل، فهناك الكثير من الطرق فيما لو وُجد تقصير من قبل السلطات العامة كأن تقوم مجموعات مدنية متضررة من هذه القوانين وتعترض بشكل سلمي، وحتى قد تصل إلى حد العصيان المدني ولكن لا تنجرف إلى منحى السرقة.  ومن هنا، نستخلص أن السببين الوحيدين لمخالفة القانون أو السرقة هما عامل الأسرة أولاً، ومن ثم غياب السلطة، فالوزير أو الشرطي عندما يسرق، عدا عن تربيته، يسرق لأنه لا يجد سلطة فوقه لتردعه عن خطئه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع