الشيخ تامر محمد حمزة
لقد واصل الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام مسيرته الرسالية، ومارس قيادته التي تقوم على أساس الولاية والإمامة على الأمة بدرجة لا يرقى إليها الطير وينحدر عنها السيل، وبروحية النبوة، فكان هادياً من العمى، ومنقذاً من الضلالة، معتمداً على ما عنده من إرث النبوة والإمامة، غير متخلف ولا مختلف عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسيرة آبائه وأجداده الأطهار عليهم السلام. عاش الإمام الصادق عليه السلام في فترة مفصلية بلحاظ تبدل النظام برمته وتحوله من نظام أموي فاسد إلى نظام عباسي أكثر فساداً، وهكذا أجواء تشغل أرباب النظامين عن كل شيء وتذهلهم عن الآخرين، مما ساهم وساعد الإمام عليه السلام في خدمة الهدف.
* واقع فكري ثقافي متردٍّ:
من جهة الواقع الفكري والثقافي للأمة، فقد أصابها التسمم بسبب الممارسة السرطانية لحكام بني أمية، بدءاً من منع تدوين الحديث، إلى اختلاقهم الكذب والدس في روايات رسول الله صلى الله عليه وآله، لدرجة أن القدرة على التمييز بين الصحيح والسقيم صارت صعبة جداً. وهذه كتب الأخبار والأحاديث خير شاهد على ما نقول، إذ كيف يتأتى للبعض رواية ما يزيد عن ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يصحبه إلا أشهراً قلائل، وصولاً إلى الأيدي اليهودية التي نشرت القصص والحكايات الإسرائيلية وقد رواها – للأسف - من يدعي صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذه الثقافة المثقلة تضاف إلى عوامل أخرى ليست أقل خطورة مما ذكر، كتداخل الثقافات الأخرى وتنشيط حركة الترجمة، مما أدى إلى تشويش كبير في بعض أذهان المسلمين. ولذلك، أفرزت هذه الوقائع فرقاً وتيارات فكرية متناقضة منحرفة، مهددة الواقع الاجتماعي للمسلمين بسبب الصراعات والاختلافات، حتى وصل الأمر ببعضهم لاعتناق الزندقة والإلحاد.
* قيادة الإمام الولائية متعددة ومتنوعة:
ويمكن القول إن الإمام جعفر الصادق عليه السلام إمام مجتمع واحد ظاهراً، ومجتمعات متناقضة باطناً، بما يحمل هذا المجتمع من أفكار مسمومة متنوعة، فمن الزندقة إلى الغلو، ومن الاعتزال إلى الأشعرية، ومن غيرها إلى غيرها. ولذا، نجد أن الإمام مارس قيادته الولائية على الأمة ضمن الأدوار والأساليب التالية:
ـ أولاً: وهي أهمها وسنامها: بناء جامعة أهل البيت عليهم السلام.
إن انتشار الفرق كالمعتزلة والأشاعرة والكيسانية والزيدية، واختراق الزندقة للمجتمع الإسلامي وما نتج من ظهور الغلو والرأي وغير ذلك من الفرق، أدى إلى صياغة جديدة لفهم الرسالة على مستوى القرآن والحديث والفقه، حتى أصاب هذا الوباء المجتمع في أصول دينه وعقائده، وكان التيه الحقيقي للفكر والانحراف والضلال السلوكي والعملي. وقد تصدى الإمام الصادق عليه السلام بدقة وحكمة وحنكة لمعالجة ذلك بكل أناة. ولأجل أن يشكل قوة كبيرة وقادرة على الإصلاح وإعادة الأمور إلى أصالة رسالة جده محمد صلى الله عليه وآله، طوّر الجامعة الإسلامية التي أرسى قواعدها الإمام الباقر عليه السلام، وقد أعطاها جُلَّ همِّه واهتمامه.
خصائصها وميزاتها:
1- العدد الكبير الذي تخرج منها، حتى بلغ أكثر من أربعة آلاف عالم.
2- فتح الجامعة أمام كل الفرق، ويشهد لذلك تتلمذ أبي حنيفة على يد الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
3- التنوع في الفنون والعلوم، سواء كانت دينية أو علمية، وفي مجالات متعددة كالفلك، والطب، والكيمياء، والفيزياء، والنبات، والحيوان.
4- استقلاليتها وعدم تبعيتها لأي نظام سياسي فاسد، إذ على رأسها الفكر المحمدي الأصيل.
5- العمق الفكري، وهذا يتجلى في مجال الطلاب الذين تخرجوا منها وقد تفوقوا على أي خصم ناظروه.
6- لم تخرّج علماء فحسب، بل أقيمت على ضفافها حوزات منتشرة في قم والرَّي والكوفة وبغداد وأهواز ومصر.
7- نماء الفكر الإسلامي وتطويره لمواجهة كل الأفكار والمدارس المنحرفة وضمانة لرسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله في المستقبل.
8- التخصص العلمي، وهذا واضح من خلال الطلاب الذين تنوعوا بلحاظ ما يحملون من علوم.
ـ ثانياً: بناء أفراد صالحين
لقد اهتم الإمام الصادق عليه السلام ببناء أفراد صالحين، ليتحمّلوا مسؤولية خطيرة وكبيرة، ألا وهي تجذير خط أهل البيت عليهم السلام في الأمة الإسلامية. وقد أشرف عليهم ونظّم أساليب عملهم في مواجهة الانحراف المستشري، بحيث جعلهم كتلة مترابطة في العمل والتغيير وإعداد أرضية صالحة تؤدي إلى تغيير الواقع الفاسد على المدى القريب. لا يخفى أنَّ إيجاد هكذا مجموعة كبيرة من الأفراد في وسط الأمة يؤدي إلى أمور:
1- الحفاظ على وحدة الأمة.
2- استقطاب الأفراد الآخرين، مما يوسع دائرة الأفراد المرتبطين بالإمام، وهذا يسهل عملية التغيير.
3- تغيير الواقع السياسي المنحرف، ويشهد لذلك ما رواه زيد الشحام عن الإمام من حديثٍ يشكل بحد ذاته مدرسة في الآداب والأخلاق والسلوك.
فقد قال: قال لي أبو عبد الله "إقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم، والإجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرَّجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري"(1). وكان دائماً يحثهم على التحلّي بصفات تميزهم عن أي فرد في المجتمع، بل ارتقى بهم إلى مستوى القدوة الحسنة وأراد لهم أن يكونوا المثل الأعلى للناس.
ـ ثالثاً: الانفتاح العام والشامل على جميع الطوائف وعلى اختلاف اتجاهاتها الفكرية والسياسية
لم ينغلق الإمام على نفسه ولم يغلق الباب أمام من خالفه، بل التقى بالجميع وقد ناقشهم وحاورهم وكلاًّ بلغته الفكرية والسياسية والعقائدية، فهو الذي حاورهم وأثبت لهم عدم شرعية الحكومات الفاسدة، وحرَّم الرجوع إليهم، كما جاء في الرواية (أيُّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة، إلى قاضٍ أو سلطانٍ جائرٍ فقضى عليه بغير حكم الله، فقد شركه في الإثم)(2). وفي المقابل، كان يطرح لهم الصيغة السياسية المستقيمة من خلال تبيان موقع الولاية والإمامة، كما يدل عليه حواره مع الموقع الروحي للمعتزلة عمرو بن عبيد، إذ خاطبه الإمام بقوله (يا عمرو، لو أنَّ الأمَّة قلَّدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤونة، فقيل لك: ولِّها من شئت، من كنت تولِّي(3)؟) الحديث. وفي جهة ثالثة، كان يناقش حركة الكفر والإلحاد، كما يتبيَّن ذلك من مناقشته لأحد أقطابها، أبي شاكر الديصاني ولعدة مرات، حتى أعلن توبته والبراءة مما كان يعتقد به. وهكذا حاله مع الفقهاء الآخرين الذين يختلفون معه، مقدِّماً لهم المنهج الصحيح لفهم الشريعة، كما قال لأبان (يا أبان، إنَّ السنة إذا قيست محق الدين)(4).
ـ رابعاً: من جملة الأساليب التي اعتمدها الإمام جعفر الصادق عليه السلام تقوية الخط الثوري والجهادي في أوساط الأمَّة، من خلال التركيز على كل ما يتعلق بالإمام الحسين عليه السلام، وكذلك من خلال تأييده لثورة عمّه زيد بن علي وأشباهها، فقد روى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، قال: سمعت أبي يقول (رحم الله عمي زيداً.... لقد استشارني في خروجه......)(5) وأيضاً قد بكى عليه الإمام(6)، وقد قال للفضيل بن يسار (أشركني الله في تلك الدماء، مضى- والله - زيد عمي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب عليه السلام(7)، بل دفع إلى عبد الرحمن بن سيابة ألف دينار وأمره أن يقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي(8). وكذلك كلَّف أيضاً من يحصي عوائل الشهداء ويوزِّع المال عليهم. هذه أدوار أربعة، وربما تضاف إليها أخرى، لتشكل لنا الخط الذي سلكه الإمام الصادق عليه السلام لاستمرار قيادته المباركة في الأمَّة، والعمل بهذا الخط يحتاج إلى الصبر والتصبر حتى نصل إلى شاطئ الأمان بظهور إمام دولة العدل الإلهي في الأرض أرواحنا فداه.
وسائل الشيعة، ج12، باب 5، ح2، وأصول الكافي، ج2، ص464، ح5.
وسائل الشيعة، ج27، باب 13، ح5.
بحار الأنوار، ج47، ص 213.
بحار الأنوار، ج104، ص 405.
بحار الأنوار، ج46، ص174.
بحار الأنوار، ج46، ص201.
أمالي الصدوق، ص 286.
أمالي الصدوق، ص275