إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

الطيِّبات نعمة.. لا تحوِّلوها إلى نقمة!

السيد سامي خضرا

 



من أهم معالم شخصية الأنبياء صلى الله عليه وآله، التواضع لخالقهم عزَّ وجلَّ وللناس... وعلى تفصيل نادر في حالات خاصة جداً. فالتكبر والتجبر أمران محرمان، ولا يجوزان من كل عبد صالح، فكل أنواع التكبر محرمة، سواء كانت على الخالق عزَّ وجلَّ، أو كانت على العبادة، أو على الخلق.

ما جاء في المقدمة أعلاه، جلي، لا يحتاج إلى زيادة بيان، أو قوي برهان، ولكن السؤال الذي يُطرح في مثل هذه الحال، ويحتاج إلى وضوح المقال، هو:
هل التنعم بمتاع الدنيا يعتبر من التكبّر المحرّم؟! وهل لبس الجميل، وأكل الطيِّب، والزينة المجمِّلة، والطِيب الجذَّاب، والسكن المريح من التكبر المحرم؟!. وهل اختيار بعض أنواع الطعام أو اللباس أو المركوب، بنِيَّة أن يكون جميلاً أو لائقاً أو مريحاً... يعتبر من التكبر أيضاً؟!. والجواب: أن هذه الأمور ليست محرمة في ذاتها، ولمجرد القيام بها، بل هي من الحلال الطيّب الذي دعا إليه الإسلام، وندب إلى بعضه، ومارسه أنبياء الله، سلام الله عليهم أجمعين. إنما المحرم من الأصناف المتقدمة، طريقة التناول والممارسة، حيث تكون طريقة اللباس أو الطعام سيئة أو مسيئة! وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمركوب والخادم والسكن.  فإذا رأينا مؤمناً مثلاً، قد أظهر نعمة الله عليه، فاشترى سيارة جميلة، أو مسكناً واسعاً فلا يجوز اتهامه بالتجبر والتكبر، فَمَن حرّم زينة الله التي أخرجها لعباده، والطيبات من الرزق التي لو استعملت خالصة لوجه الله الكريم، كما استعملها الأنبياء والصالحون، سيكون فيها الأجر يوم القيامة، إن شاء الله تعالى؟

 - ولا يجوز لنا نتيجة الغيرة أو الحسد، أن نحرّم ما أحلّ الله لنا، نبتغي مرضاة أنفسنا، والمهم أن يكون كلّ ذلك من الحلال مصدره، وإلى الحلال مورده، فهو خيرٌ أجراً، وخيرٌ عقبى.
 - والمهم أيضاً أن لا نتعدى على حقوق الآخرين، وأن لا نحقّرهم، فقد جاء رجل إلى الصادق عليه السلام وقال له: إنني آكل الطعام الطيّب، وأشمّ الرائحة الطيّبة، وأركب الدابّة الفارهة، ويتبعني الغلام، فترى في هذا شيئاً من التجبر، فلا أفعله؟. فأطرق أبو عبد الله عليه السلام، ثم قال: "إنما الجبار الملعون، من غَمَصَ الناس، وجهل الحقّ".  فقال الرجل: أما الحقّ فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو. فقال عليه السلام: "من حقّر الناس، وتجبّر عليهم، فذلك الجبار"(1).
 

وعنه عليه السلام قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" فقال رجل: إنّا نلبس الثوب الحسن، فيدخلنا العجب، فقال عليه السلام: "إنما ذلك فيما بينه وبين الله عز وجل"(2) والخلاصة، إن التنعم بمتاع الدنيا، ليس محرماً، وإنما إضمار نية التعالي على الآخرين، والتحقير لهم، وهدر حقوقهم هو المحرم.

* بغض الدنيا المحرّمة:
وذكر أهل الأخلاق، ومن كان له خبرة بفن تزكية النفس وتهذيبها، تحريم حبّ الدنيا المحرمة ووجوب بغضها... إنما هي أيام قصيرة نعيشها، وتعقبها رحلة طويلة، وعقبات وبيلة. فكلّ يوم تعترضنا أصناف من المحرمات التي ينبغي الهرب منها.... وهذا الهرب لا يكون بالشوق ولا بالتمني، بل هو بالبغض وجعل حاجز نفسي بيننا وبين أيّ حرام قد نصادفه، فننظر إلى ما يظهر جميلاً من المحرّمات، وكأنه قد غمس بالقاذورات، واختلط بالأوساخ حتى لا تشتهيه أنفسنا... وبذلك نكون قد وضعنا حاجزاً بيننا وبين الحرام... ومن هنا قال أهل الحق والدراية في تهذيب النفوس بتحريم حبّ الدنيا المحرمة ووجوب بغضها. ونتذكر هنا مولانا ومقتدانا علياً عليه السلام عندما جاءه رجل مشبوه، في حاجة يريدها منه، وأراد أن يقدّم بين يدَي مسألته قالباً من الحلوى، مزيناً بالقطر والسكر... ولكنّ الأمير عليه السلام، وبلحاظ الهدف من هذه الرشوة، لم ير هذا المنظر الجميل، بل رأى فيه سمّ الحية وقيأها... حيث قال عليه السلام في نهج البلاغة: "... وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شَنئتُها، كأنما عُجِنَتْ بريق حيّة أو قيئها..."(3). فسلام الله عليه، وقد رأى أجمل المناظر على أقبح صورة، وأكثرها تنفيراً للنفس الإنسانية، كل ذلك لأنّ الحلال قد طُلب به الحرام. فالشيء من الدنيا، وإن كان جميلاً، إلا أن هدفه أو طريقة استعماله تجعله قبيحاً.

سئل عليّ بن الحسين عليه السلام: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "ما من عمل بعد معرفة الله، ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله، أفضل من بغض الدنيا، فإنّ لذلك شعباً كثيرة، وللمعاصي شعب، فأول ما عصي الله به الكبر (إلى أن قال): ثم الحرص ثم الحسد، وهي معصية ابن آدم، حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حبّ النساء، وحبّ الدنيا، وحبّ الرياسة وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلُّهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كلّ خطيئة، والدنيا دنياءان: دنيا بلاغ ودنيا ملعونة"(4).

وورد في مناجاة موسى على نبينا وآله وعليه السلام قال الله تعالى له: "إنّ الدنيا دار عقوبة، عاقبتُ فيها آدم عند خطيئته، وجعلتُها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي، يا موسى إن عبادي الصالحين، زهدوا في الدنيا بقدر علمهم بي، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظّمها فقرّت عينه بها، ولم يحقّرها أحد إلا انتفع بها"(5). وجاء عن الصادق عليه السلام قوله: "من زهد في الدنيا، أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا: داءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام"(6).


(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج، ص.
(2) معاني الأخبار، الصدوق، ص.
(3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي Q، ج، ص.
(4) الكافي، الشيخ الكليني، ج، ص.
(5) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج، ص.
(6) الكافي، الشيخ الكليني، ج، ص.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع