لنا العزير
ليست الأمية بحد ذاتها نقيصة، إنما رضا المرء واستسلامه لحاله يُعدّ ذنباً لا تغفره ظروف الحياة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب... ورضاك بالحال التي أنت عليها(1). إن خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وآله كان أمياً، لكنه أبى إلا أن يكون بمستوى العلم الذي نزل إليه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ..﴾.
بلى، إن الله لهو الأكرم، فلو شحّت في حياة المرء القدرة على العلم في الصغر، ووجدت عنده إرادة التعلّم، لا بد وأن يكرمه الله بنفحة من علمه ارتضاها له. تختلف الأمية التي نحن بصدد الحديث عنها عن تلك التي يتحدث عنها العالم اليوم. ففي عصر باتت الأمية فيه هي التخلّف عن العلوم التقنية، نحن اليوم لا زلنا نعمل على حل مشكلة أمية الحروف الأولى. وفي بلد مثل لبنان لطالما اعتبر سويسرا الشرق، هناك أكثر من 34% من أبنائه يجهلون القراءة والكتابة ومن مختلف الأعمار. وعادة ما يكون الظن الغالب على هذه المسألة أن الأمية هي بين الكبار في السن، إلا أن الإحصاءات تُثبت أن هذه النسبة موزعة بين الأولاد والشباب وكبار السن. وفي تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم للأمي تعتبر أنه الفرد الذي لا يستطيع مع الفهم قراءة وكتابة جملة قصيرة وبسيطة عن حياته اليومية، أو إذا كان يستطيع القراءة ولا يستطيع الكتابة. وبالعود إلى العالم العربي، نجد أنه بالتلاؤم مع هذا التعريف، فإن ملايين من العرب يعانون الأمية، مع أنهم يجيدون القراءة، لكنهم قد لا يجدون جملة يكتبونها عن حياتهم اليومية.
اليوم، في العالم، انتفضت الدول على أنفسها وقامت بحملات واسعة وخطط لمحو الأمية، فمنها من اعتمد المعاهد الخاصة بمحو الأمية والتي تعمل على تخريج متخصصين ممن كانوا أميين. وقد لا يكون المطلوب اليوم في لبنان هذا المستوى من الدعم الرسمي، والذي يُسجّل غياباً شبه تام عن هذه الموضوعات، في حين تعتبرها الدول العظمى والدنيا أنها من الأسس الأولى في تطوير المجتمع والدولة. لم يتجرأ حتى اليوم أحد على أن يطلب من الحكومة اللبنانية أن تقوم بإعلان حملة للتعليم الإلزامي للأميين، فجلّ ما يأمله المواطن اللبناني الذي حرمته الكثير من الظروف فرصة أن يجلس على طاولة الدراسة - أغلب طموحه - أن يقرأ اسمه واسم بلده لكي يعرف كيف يفتخر به. كثيرة هي الأسباب التي تعتبر منبعاً للأمية في العالم ككل، من الفقر إلى الهجرة، إلى سوء المناهج التربوية التعليمية والتي تعمل بشكل أو بآخر على خدمة التسرّب المدرسي، وغيرها من الأسباب المسلّم بها. إلا أن ما يريح النفس ليس البكاء على الأطلال أو رصّ أسباب الفشل، إنما الراحة بأن تعرف كيف تبحث عن السبب لـ"نعم" واحدة في الحياة، وذلك عندما تريد أن لا تقول للحياة، كما الظروف، "لا". لا بد من البحث عن بصيص في مدلهمات كل ما استُعرض من عقبات، بصيص نور يحيل الظلمات إلى صباحات مستقبلية مشرقة، من هنا كانت "جمعية النور الثقافية".
* ولادة الجمعية:
ولدت جمعية النور الثقافية بعد مخاض عايشه بلدنا من مد وجزر، تحوّل إلى مبادرات فردية قامت بها "جمعية المعارف الإسلامية الثقافية" تحت عنوان "نفحات"، كانت تعم مختلف المناطق بدون تحييد إحداها. "فالعنوان العريض كان أحقية التعلّم للجميع، دون التفريق بين قريب وبعيد أو كبير وصغير، العلم لكل من أراد التعلّم". هذا ما أكده المدير المسؤول في جمعية "النور" الأستاذ حسين دلال. كما أضاف "إن حاجة الأرياف هي أكبر بطبيعة الحال من العاصمة، إلا أن تمركز معظم الناس في العاصمة عزّز هذه النشاطات في بيروت مع توفير القدر الجيّد من الدورات للمناطق النائية والمتوسطة".
تفعيل أنشطة الجمعية تبعاً لحاجة المناطق:
ولتحقيق التوزيع المنصف السابق ذكره، كان لا بد من إجراء الإحصاءات اللازمة التي تحدّد ديموغرافية الأمية، وعليها يتم تفعيل الأنشطة بين مختلف المناطق. وعلى قاعدة (من تساوى يوماه فهو مغبون)، واستفادة من التجارب السابقة، ولتعميم التجربة على مختلف الأراضي اللبنانية، وتحت شعار (اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة)، أطلقت "جمعية المعارف الإسلامية الثقافية" عام 2000 حملة نور لإعداد دورات محو أمية، ولكن على نطاق ضيق وفي أماكن محددة، لكنها كانت القشة التي أججت حقل الحصيد، فكانت البداية... فمنذ عام 2000 حتى اليوم قامت الجمعية بإطلاق أكثر من مئة وخمسين دورة لتعليم القراءة والكتابة، شارك فيها حوالي (2000) شخص من الذكور والإناث.
* "النور" ووزارة الشؤون:
وبسبب جهودها الكبيرة استحقّت الجمعية تنويهاً من وزارة الشؤون الاجتماعية يكرّس جديتها وصوابيتها في المجال التعليمي. وعليه، ترى السيدة أمال شرارة المنسّقة الإجتماعية في وزارة الشؤون الإجتماعية، أن "جمعية النور هي من أكثر الجمعيات جدية في مجال محو الأمية، وقد استحقت تنويهاً بما يختص بملف محو الأمية، وذلك للأسلوب التقييمي والتطويري الذي يحرص القيمون على الجمعية على اتباعه في أدائهم". وبناءاً عليه، ترى السيدة شرارة "في ولادة جمعية "النور" فجراً جديداً لعالم أظلمت الحروف في أعين بعض أبنائه تبعاً لأسباب تستفيض الصفحات في تفصيلها". بيان علم وخبر رقم 1161 بتأسيس جمعية باسم: "جمعية النور" مركزها: حارة حريك – قضاء بعبدا، وقد أخذت وزارة الداخلية والبلديات علماً بتأسيس الجمعية "كان دعم وزارة الشؤون لجمعية النور على شكل مادي وعيني منها، بتدريب وتأهيل مجموعة من المدرسين وصل عددهم إلى أكثر من (200) مدرس ومدرسة من ذوي الكفاءة والاختصاص والتجربة والخبرة التربوية وحملة الإجازات الجامعية في اللغة العربية أو الانسانيات. وقد تراوحت مدة الدورة التدريبية بين خمسة عشر يوماً وخمسة أيام، شاملة جملة من المواد أهمها أساليب وطرائق تدريس الكبار ومادة في علم النفس التربوي. كما وتقوم الجمعية بتقديم الكتب التعليمية لمختلف المستويات. وهذا الدعم كان استجابة لنشاط ابتدعته الجمعية نفسها" هذا ما أكّدته السيدة شرارة.
* أهداف الجمعية:
وبالنسبة إلى نوعية التعليم الذي تقدمه الجمعية فإن الجمعية تعتمد في عملها على مجموعة خطوات حالية منها إعداد الإحصاءات المتتالية للأمية في مختلف الأراضي اللبنانية، كما وتعمل على إعداد الكتب المتخصصة لتعليم الأميين بمستوياتهم الأربعة. بالإضافة إلى أهدافها بعيدة المدى والتي كرّستها في مرسوم تأسيسها، ونذكر منها:
1- العمل على إلغاء الأمية من أوساط المجتمع، والسعي مع الجهات المختصة لتنظيم دورات محو الأمية والأنشطة المناسبة في مختلف المناطق اللبنانية.
2- الاهتمام بتطوير أساليب وطرائق محو الأمية، بما يتلاءم مع الشرائح المتنوعة المستهدفة، وبالإستفادة من الإمكانات والوسائل الحديثة وبرامج التدريب.
3- إصدار الكتب التربوية والتعليمية والنشرات المتخصصة بعمل الجمعية.
4- القيام بالدراسات التربوية والاجتماعية، بهدف تطوير وتفعيل برامج محو الأمية.
5- الترويج لأهمية القراءة والتعلم عبر تنظيم البرامج الثقافية المتنوعة، والمشاركة في معارض الكتب وإنشاء مكتبات عامة.
6- المشاركة في برامج معالجة التسرّب المدرسي وبرامج مكافحة عمالة الأطفال.
7- التعاون والتنسيق مع الجهات الرسمية المختصة والجمعيات الأهلية ذات الصلة، لتحقيق أفضل النتائج عند تنفيذ برامج الجمعية.
هذه الأهداف بقراءتها تصوّب - إلى حدٍّ ما - الحلول المفترضة لمشكلة الأمية، إلا أنها تحتاج إلى إمكانيات واسعة ومدى زمني يلائم المجتمع مع سياسة الجمعية التطويرية. وفي الخطوات الأولى تعمل الجمعية على التدرّج التأسيسي للأميين فقسّمت المستويات التعليمية إلى ثلاثة مستويات يخرج منها الفرد وهو يستطيع قراءة وكتابة جملة مفيدة من محض خياله. هذا التدرّج يوجد آفاقاً للمستقبل الذي "تعمل الجمعية على مراعاة مختلف جوانبه، فمن التعليم إلى الدورات التثقيفية والمهنية كفنون التربية الحضانية، والزراعة ودورات الإسعافات الأولية التي تعمل على النهوض بالأمي في مختلف جوانب شخصيته الثقافية، لتسهيل تجانسه وانسيابه وتقدّمه في المضمار العملي"، حسبما أكد السيد دلال، مؤكداً أنهم كـ"جمعية النور"، بمختلف عناصرها، يهدفون لتحصيل رضا الله، وذلك بالنهوض بمجتمعٍ أضحت رغبة التعلّم لديه تضاهي رغبة الرفاهية.
"أنتم النور في أبصارنا":
ويقول السيد حسين دلال: ما من مكافأة أجمل من كلمة قالتها الحاجة أم خليل "أنتم النور الذي ينير أبصارنا". الحاجة أم خليل ذات الـ73 عاماً تفتخر أنها باتت اليوم في المستوى الثالث، "ولم أعد بحاجة لأسأل فلاناً أو فلاناً عن عنوان قد أتيه في البحث عنه وأنا أمامه. فبالأمس القريب كنت أبصم على وثائق، قد تكون إحداها تقضي بقطع عنقي دون أن أدري. أما اليوم، بعد تعلّمي، بِتّ أدرك ما يدور حولي ولا يستطيع أحد أن يهزأ من جهلي. أما عن دور جمعية النور في حياتها، فهي تعبّر بأن "ما قامت به الجمعية كالعملية الجراحية التي تعيد للكفيف بصره وبدون مقابل". ليس غريباً أن يشعر المرء بالكثير من التأثر عندما يقرأ كلمات الحاجة أم خليل، ولكن الغريب أن تراها وهي تتحدّث عن التعلّم وفي عينيها ذلك البريق المنتصر، دون أن تشاركها رغبة التشجيع والتطوّر.
(1) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص286.