آية الله ناصر مكارم الشيرازي
على المدير الذي يريد الوصول إلى أهدافه أن يستخدم الطاقات الصالحة الجدية والعقائدية والأمينة في التنظيم الذي يديره، وهذا ما يوجب عليه أن يقوم بالاختيار المناسب.
ولا فرق بين أن يكون الاختيار بيده أم لا، فإنه يستطيع أن يستقطب الطاقات الصالحة بطريق مباشر أو غير مباشر.
* الآفة الكبرى للاختيار
من أكبر المخاطر التي يمكن أن يقع فيها المدراء في عملية الاستقطاب هو سعيهم للحصول على الأفراد الذين ليس لديهم من نقاط القوة سوى الطاعة والقبول. وصحيح أن شرط تقدم الإدارة والقيادة هو الانضباط والطاعة، ولكن هذا لا يعني أن يكون همّ المدراء والقادة الحصول على الأفراد الذين ليس لديهم سوى "السمع والطاعة".
لقد كان لهذا الأمر من ترجيح الأفراد غير المناسبين آثار سيئة جداً عبر التاريخ على كل القادة والمدراء. ولا ننسى أن مثل هذا الاختيار ينبع عادة من روح الاستبداد، فإن المستبد يهمه أن لا يرى من يعارضه أو يظهر رأياً خلاف رأيه أو ينتقد عليه أعماله حتى ولو كان انتقاداً بناءً.
ولا زلت أذكر حينما اعتقلت في عهد الطاغوت وعصر السافاك وعندما أحضرت إلى طهران. وضعت في مركز المخابرات. وكان المسؤول ينتظر مكالمة من رئيسه. فلما رنّ الهاتف رفع السماعة وقال: "يتفضلون!!" (بالجمع الغائب والجملة الخبرية!). رأيت أن هذا المتعلق لا يريد أن يقول "تفضلوا" لأنها صيغة أمر. وصيغة الأمر ليست مناسبة مع الرئيس، ولهذا بدّل الجملة الإنشائية إلى خبرية.
أجل، أن أمثال هؤلاء المدراء يعجبهم الأفراد الذين يقولون "يتفضلون"، وليسوا مستعدين لقول تفضلوا.
وكذلك لا أنسى أنني رأيت في ذلك الوقت شخصاً أراد أن يذهب للقاء أحد المسؤولين ليشفع لأحد المظلومين. كان يقول: نحن عندما نذهب إلى الشاه لنتوسط لأجل أحد الأشخاص لا نقول جملة كاملة نذكر أولاً المبتدأ كأن نقول مثلاً "مشهدي حسين".. ثم ننظر إلى وجه الشاه، فإذا عبس أو تقطب نقول إنه رجل سيء وخائن ولا يقدر النعمة. أما إذا تبسّم أو ارتاح نقول: أنه رجل من أتباعنا ومحبينا.
إن مثل هؤلاء الأشخاص يكونون حمل إعجاب المدراء السيئين. ولقد شاهدنا آثار مثل هذه الإدارة! ولهذا ينبغي أن يهتم المدراء والقادة بعدم الوقوع في مثل هذه المهالك.
وبعبارة أخرى فإن المدير اللائق هو الذي يمتلك "سعة الصدر" بحيث يتحمل آراء الأفراد الجيدين وأسئلتهم وانتقاداتهم. بل يتقبل ذلك (بشرط أن لا يخرج عن حد الانضباط ولا يسقط من هيبة الإدارة). ويقدمهم على غيرهم من العناصر المتملقة والمتزلفة التي يمكن أن تزين له الأمور عند أدنى غفلة أو عدم التفات.
ولهذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يحذر أتباعه بشدة من هذا الأمر، وفي خطبة له بعد حرب صفين وأمام جيشه الذي تجاوز الخمسين ألف رجل قال:
"فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة.
ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة.
ولا تخالطوني بالمصانعة
ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي
ولا التماس إعظام لنفسي
فإنه من استثقل الحق أن قال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل به عليه أثقل.
فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل..".
وفي ختام الحديث، نرى من الضروري أن نذكر ونؤكد على أخطار الأفراد المتحلقين الذي ينفذون من خلال نقاط ضعف المدراء وغريزة حب الذات والعجب لديهم. فيستميلوهم من خلال الأكاذيب ويقربون لهم البعيد ويبعدون لهم القريب.
وما أروع ما يقوله أمير المؤمنين في وصف المتقين: "إذا زكي أحدهم خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون".
أجل فأولياء الله لا يتأذون من التملق والمدح الفارغ فقط وإنما يعدون ذلك من العيوب الأخلاقية. ولذلك فإنّهم يرفضونه وينتقدون فاعله.
ويروى أن أعرابياً قدم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي يحصل على بعض الغنائم بدأ بالتزلف والتملق عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: "ألست أفضلنا نسباً وأحسننا أولاداً، وأشرفنا في الجاهلية وزعيمنا في الإسلام؟!".
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "أين وضعت لسانك؟".
فقال الرجل: وراء القلب والفهم!! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذين لم يقدرا على حجب لسانك.
وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم".
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين".