بقلم: الشيخ تامر حمزة
الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا , اللهم إني أحبهما فأحب من يحبهما(1) هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله، إلى الأمة لتعلم أن الإمام هو الذي يتخذ الموقف بما يتناسب مع حفظ الرسالة كهدف واحد لكل الأئمة عليهم السلام. وأما الدور الذي يقوم به والسبيل الذي يسلكه لخدمة ذاك الهدف فربما يتبدل من زمن إلى آخر ومن ظرف إلى ظرف بسبب المعطيات التي تلقي بظلالها، فيتخذ الإمام الموقف الحكيم الذي يخدم الهدف الأساسي. وبناءً عليه، فنحن نؤمن بوحدة الهدف لكل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، ألا وهو حفظ رسالة جدهم محمد صلى الله عليه وآله مع تبدل الأدوار فيما بينهم، بل ربما بدل الإمام الواحد عدة أدوار في حياته خدمة للهدف، كما حصل في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
* سنوات من القهر:
عشرون سنة من القهر مرت على الأمة الإسلامية في ظل تسلط معاوية بن أبي سفيان على خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد تجرع الإمام الحسن من سمها إحدى عشرة سنة وهي أشد من السم الزعاف الذي دسته إليه ابنة الأشعث.
الإعداد للمواجهة:
بعد أن نعى الإمام الحسن عليه السلام إلى المسلمين شهادة أباه انبرى عبيد الله بن العباس محفزاً المسلمين على مبايعته قائلاً: "معاشر الناس، هذا ابن بنت نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه"، فاستجاب له الناس فقالوا (ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وبادروا إلى البيعة له بالخلافة(2) وحينئذ بدأ بالخطوات العملية للتغيير، وهي:
أولاً: أمَّر الأمراء ورتَّب العمال ثم أنفذ عبد الله بن العباس إلى البصرة(3).
ثانياً: زاد في أجور الجنود مائة(4)، وهذه الزيادة إنما كانت تحفيزاً للجنود من أجل رفع معنوياتهم للثبات في المعركة المنتظرة مع معاوية، هذا مضافاً إلى عملية الإصلاح في جيشه وبنائه بناءاً قوياً.
ثالثاً: تنقية المجتمع من عيون معاوية والقضاء عليهم. ثم كتب إلى معاوية (أما بعد, فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء, لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله)(5).
رابعاً: محاولة تصحيح المسار: لقد واصل الإمام الحسن عليه السلام نهج أمير المؤمنين في مراسلة معاوية كأسلوب من أساليب إتمام الحجة على خصمه، مع علمه المسبق بعدم الوصول إلى نتيجة لمعرفته عنه من نزاعات غير خيّرة ومن جملتها (أدخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة بذلك, ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين, وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك سرتُ إليك بالمسلمين فحاكمتك, حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)(6).
* تجري الرياح بما لا تشتهي السفن:
قرر معاوية خوض المعركة العسكرية مع الإمام الحسن عليه السلام وبدأ بتجهيز جيشه، ثم بعث بمذكرة ذات مضمون واحد إلى جميع عماله وولاته لتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد للحرب، ثم زحف نحو العراق متولياً إدارة المعركة بنفسه على رأس جيش قوامه ستون ألفاً مطيعين، لأمره ممتثلين. وفي المقلب الآخر، بدأ الإمام الحسن يستنهض الكوفة للجهاد والسير لقتال معاوية, وقد بعث حجر بن عدي يأمر الناس والعمال للاستعداد, وقد نادى المنادي للصلاة جامعة، فأقبل الناس، ثم وقف بهم خطيباً: (أما بعد, فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرهاً, ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون, إنه بلغني أن معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا المسير إليه فتحرك لذلك, فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة) فسكتوا(7).
سكوتهم هذا أول المفآجات, ثم كانوا فريقين: أما الأول، فتثاقل عن الجهاد. وأما الثاني، فخرج وهو كاره لذلك، مضافاً إلى كونه خليطاً متنوعاً، إذ فيهم من الخوارج ومن الطامحين الذين لا يَشْبعُ نهمُهم، إلى الفئة المذبذبة وغير ذلك. وأما المخلصون، فهم أقل ندرة من الكبريت الأحمر.
* بداية زوال حكم بني أمية:
وبالرغم من كل ما جرى عليه وعلى أصحابه فلا يكون سبباً لسقوط التكليف عنهم وإن كان سبباً لتغيير أسلوب المواجهة بما يخدم الهدف نفسه ولذا قرر اختيار الصلح كسبيل فريد لتغيير المعادلة وكمقدمة للثورة الشاملة التي تزيل الحكم من قواعده, وبناء عليه قبل بالهدنة والصلح مع معاوية، واضعاً بنوده الخمسة والمتضمنة حقيقة خمسة من الأفخاخ التي يستحيل أن يتخلص معاوية منها، وهذا الذي حصل, إذ عمد معاوية بعد قبوله بها إلى نقضها ورفضها حيث قال (ألا وإني قد منّيت الحسن وأعطيته أشياءاً وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها). وبهذا الإعلان أخذ المسلمون يشعرون بأن أطروحته هي امتداد للجاهلية وما يفعله معاوية يريد هدم الإسلام، بل أحدث هذا الموقف صدمة للأمة، فأيقظها من غفلتها وكان سبباً لتحطيم الإطار الديني المزيف الذي أحاط بالسلطة الأموية، وأدركت الأمة خطورة موقفها التخاذلي من القيادة الحقيقية المتمثلة بالإمام الحسن عليه السلام، مما حدا بها إلى مطالبته بفسخ الهدنة ومواجهة معاوية من جديد، ولكن أجابهم بقوله ﴿لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾(8) فإن المتاع إلى حين هو تمهيد حقيقي للوصول إلى ما حدث في كربلاء.
بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام استمر حكم معاوية تسع سنوات، كان يرى الإمام الحسين عليه السلام، الذي أضحى الخليفة بعد أخيه الحسن عليه السلام، أنه لم يبق من الإسلام إلا مادة أحرفه، وأما هيئتها، فقد انتثرت وأفرغت الرسالة من محتواها, ولكن الأمور غير مؤاتية والسبيل غير موصل إلى الهدف في ظل هكذا نظام وبداية التغيير لا تبدأ إلا بعد موت معاوية, ويشير إليه ما جاء في جواب الإمام الحسين على رسالة جعدة بن هبيرة حيث طلب منه الخروج بالسيف فقال عليه السلام: "فالصقوا رحمكم بالأرض, واكمنوا في البيوت, واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حياً, فإن يحدث الله به حدثاً وأنا حي كتبت إليكم برأيي والسلام"(9). لذا كانت السبل والأدوار التي قام بها الأئمة عليهم السلام دائماً لخدمة الهدف ولم يكن الهدف في خدمتها.
(1) المناقب، ابن شهر آشوب، ج3، ص 361.
(2) بحار الأنوار، ج43، ص362.
(3) أعيان الشيعة، ج4، ص14.
(4) مقاتل الطالبيين، ص35.
(5) مقاتل الطالبيين، ص33.
(6) المصدر نفسه، ص 55 – 56.
(7) أعيان الشيعة، ج4، ص19.
(8) بحار الأنوار، ج44، ص14، وأمالي الطوسي، ص567.
(9) حياة الإمام الحسين، ج2، ص229، وبحار الأنوار، ج24، ص18.