الشيخ عباس رشيد
قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: "خليلي من هذه الأمة أويس القرني" (1). خليلٌ نقل التاريخ عنه أنه لم يلتقِ الرسول صلى الله عليه وآلهولو مرّةً واحدة. أيُّ نوع من الأخلّاء كان؟ ومن هو أويس القرني؟ كان أويس القرني رضي الله عنه معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يلْتقِه، فعن أصبغ بن زيد: "إنّما منعَ أويساً أن يُقدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله برُّه بأُمّه" (2). وقصة ذلك أن أويس كان كافلاً لأمه ينفق عليها، فاستأذن منها للذهاب إلى المدينة لزيارة النبي صلى الله عليه وآله، فأذنت له، واشترطت عليه أن يعود فوراً إن لم يجد النبي صلى الله عليه وآله في المدينة، ولما وصل أويس إلى المدينة وجد النبي خارجها، فعاد على الرغم من مشاق السفر؛ برّاً منه بأمه، وكان رسول الله يذكره بخير فيروى عنه قوله: "تفوح روائح الجنة من قبل قرن، واشوقاه إليك يا أويس القرني. ألا ومن لقيه فليقرئه مني السلام، فقيل: يا رسول الله ومن أويس القرني؟ فقال صلى الله عليه وآله إن غاب عنكم لم تفتقدوه، وإن ظهر لكم لم تكترثوا به، يدخل الجنة في شفاعته مثل ربيعة ومضر، يؤمن بي ولا يراني، ويُقتل بين يدي خليفتي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في صفين" (3).
* تمام الألف رجل
وقد كان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت بداية تعرّف الإمام عليه بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة، قال عليه السلام: "يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلاً، ولا ينقصون رجلاً، يبايعوني على الموت، قال ابن عباس: فجزعت لذلك وخفت أن ينقص القوم من العدد أو يزيدوا عليه فيفسدوا الأمر علينا، وإني أحصي القوم، فاستوفيت عددهم تسع مائة رجل وتسعة وتسعين رجلاً، ثم انقطع مجيء القوم، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا حمله على ما قال؟ فبينما أنا مفكّرٌ في ذلك، إذ رأيت شخصاً قد أقبل حتى دنا، وهو رجل عليه قباء صوف، ومعه سيف وترس وإداوة، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال: امدد يديك لأبايعك، قال عليّ عليه السلام: وعلامَ تبايعني؟ قال: على السمع والطاعة والقتال بين يديك أو يفتح الله عليك، فقال: ما اسمك؟ قال: أويس القرني، قال: نعم الله أكبر، فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآلهأني أدرك رجلاً من أمّته يقال له أويس القرني، يكون من حزب الله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، قال ابن عباس: فسري عنا" (4).
* عبادة أويس القرني
وقد أثنى عليه الإمام الكاظم عليه السلام إذ قال: "إذا كان يوم القيامة... ينادي منادٍ: أين حواريوا عليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار مولى بني أسد، وأُويس القرني" (5). إنّ الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، ولكل من يريد الوصول إلى الله طريق يلتمس فيه القرب من الله، فبعضهم اتخذ قيام الليل وسيلة القرب إلى الله، وبعضهم الآخر اتخذ الاستغفار بالأسحار الطريق الذي ينتهي به إلى حبّ الله، وبعضٌ اتخذ التفكر وسيلة القرب من الله، ولم يكن أويس القرني كعامة الناس، يحيا ولا يفكر إلا في طعامه وشرابه، فقد فَهم حقيقة هذه الدنيا، وراقب نفسه، وعمل لما بعد الموت . كان أويس يهتم بعبادة ربّه، فقد علّمه أمير المؤمنين عليه السلام أدعية راقية مذكورة في كتب الأدعية (6).
* زهده والآخرة
قال هرم بن حيان العبدي: "قدمت الكوفة فلم يكن لي بها همّ إلا أويس القرني، حتى سقطتُ عليه جالساً وحده على شاطئ الفرات نصف النهار، يتوضأ ويغسل ثوبه، فعرفته بالنّعت، فسلّمت عليه، فردّ عَلَيَّ، فمددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس كيف أنت؟ ثمّ خنقتني العبرة من حبّي إيّاه، ورّقتي له لما رأيت من حاله، حتى بكيت، وبكى، ثم قال: وأنت، فرحمك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي، من دلّك عليّ؟ قلت: الله، قال: لا إله إلا الله، سبحان ربِّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولاً. حين سماني والله ما كنت رأيته قط ولا رآني. ثم قلت: من أين عرفتني؟ وعرفت اسمي وأبي؟ فوالله ما كنت رأيتك قط قبل هذا اليوم؟، قال: نبّأني العليم الخبير، عَرِفتْ روحي روحك حيث كلمت نفسي نفسك. إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء، إنّ المؤمنين يعرف بعضهم بعضاً، ويتحدثون بروح الله، وإن لم يلتقوا، وإن لم يتكلموا ويتعارفوا، وإن نَأَتْ بهم الديار، وتفرّقت بهم المنازل! قلت: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث أحفظه عنك! قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وقد بلغني من حديثه كما بلغكم، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي، أن أكون محدثاً، أو قاضياً ومفتياً. في النفس شغل يا هرم بن حيان! فقلت: يا أخي، اقرأ عليَّ آيات من كتاب الله أسمعهن منك، فإني أحبك في الله حبّاً شديداً، وادعُ بدعوات وأوصِ بوصية احفظها عنك! فأخذ بيدي على شاطئ الفرات وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، فشهق شهقة ثم بكى مكانه ثم قال: قال ربي تعالى ذكره، وأحق القول قوله، وأصدق الحديث حديثه، وأحسن الكلام كلامه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ (الدخان: 38-39). حتى بلغ ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الدخان: 42) ثم شهق شهقة، ثم سكت، وأنا أحسبه قد غشي عليه، ثم ذكر له موعظة، ووصيّة، ودعاء لهرم، ثم قال: استودعتك الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم قال لي: لا أراك بعد اليوم، فإني أكره الشهرة، والوحدة أحبّ إليَّ، ولا تسأل عني، ولا تطلبني، فحرصت على أن أسير معه ساعة فأبى عليّ، حتى دخل في بعض السكك، فكم طلبته بعد ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء"(7).
* كلامٌ من نور
وروي عن سفيان الثوري: "كان لأويس القرني رداء، إذا جلس مسّ الأرض، وكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة، وجسد عار، وليس لي إلا ما على ظهري، وفي بطني"(8). قيل لأويس: "كيف أصبحت يا أبا عامر؟ قال: ما ظنّكم بمن يرحل إلى الآخرة كلّ يوم مرحلة لا يدري إذا انقضى سفره أعَلَى جنّةٍ يرد أم على نار؟"(9). وعن أصبغ بن زيد: "كان أُويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يُصبِح. وكان [في الليلة التالية] يقول إذا أمسى: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يُصبح" وكان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من فاضل الطعام والثياب، ثمّ يقول: "اللهمّ من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به"(10).
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
انعكست عبادة أويس القرني على سلوكه، مما أثر إيجاباً في الآخرين، فقد كان التأثير بسلوكه أكثر منه بقوله، فهو المتواضع لربه، البارّ بأمه، ومع ذلك فكان دائم النّصح والتوجيه للآخرين، قائماً بالحق رغم معاداة الآخرين له، ورميه بعظائم الأمور، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر. يروى أنّ رجلاً جاءه وقال له: "كيف حالك؟ فقال: كيف يكون حال من يصبح يقول: لا أمسي، ويمسي يقول: لا أصبح، يبشر بالجنة ولا يعمل عملها، ويحذر النار ولا يترك ما يوجبها، والله إن الموت وغُصصه وكرباته، وذكر هول المطلع، وأهوال يوم القيامة، لم تدع للمؤمن في الدنيا فرحاً، وإنّ حقوق الله لم تبقِ لنا ذهباً ولا فضة، وإنّ قيام المؤمن بالحق في النّاس لم يدع له صديقاً، نأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر فيشتمون أعراضنا، ويرموننا بالجرائم والمعايب والعظائم، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين، إنه والله لا يمنعنا ذلك أن نقوم فيهم بحق الله" (11).
* شهادته
عن الأصبغ بن نباتة: "كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفّين، فجاء رجل عليه قباء صوف متقلّد سيفين، فقال: هلمّ يدك أبايعك، فقال علامَ تبايعني؟ قال: على بذل مهجة نفسي دونك. قال: ومن أنت، قال: أويس القرني، فبايعه فلم يزل يُقاتل بين يديه حتى قُتل، فوُجد في الرجّالة مقتولا"(12). وقد دفن في صفين وقبره فيها معروف. فكان أويس مَعْلَماً للحق في معركة صفين، كما كان عمّار بن ياسر، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "لمّا كان يوم صفّين، نادى منادٍ من أصحاب معاوية أصحابَ عليّ: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، فضرب دابّته حتى دخل معهم، ثمّ قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: "خير التابعين أويس القرني"(13).
1.الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج 6، ص 163.
2.سيد أعلام النبلاء، الذهبي، ج 4، ص 29.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج 42، ص 155.
4.م. ن، ج 41، ص 300. وذي قار: موضع متوسط بين الكوفة والبصرة. والإداوة: إناء صغير من جلد يُتخذ للماء.
5.م. ن، ج 22، ص 342.
6.مهج الدعوات ومنهج العبادات، ابن طاووس، ص 104.
7.أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 3، ص 515.
8.تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 9، ص 444.
9.أمالي الطوسي، ص 641.
10.تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 9، ص 444.
11.بحار الأنوار، م. س، ج 72، ص 367.
12.اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 315.
13.تاريخ الإسلام، الذهبي، ج 1، ص 386
الجنوب
يعقوب
2023-07-28 21:32:32
مأجورين