آية الله جوادي الآملي
ضمن الحديث عن الدليل العقلي والأدلة الملفقة من العقل والنقل علمنا أن المجتمع الإنساني يحتاج إلى القانون والنظام، ولأجل مراعاة النظام فإنه يحتاج أيضاً إلى العنصر الفاعلي وهو الحاكم والوالي، وقد اتضح أن الغالب على حكومات العصر توجه النظام واهتمامه بالأعمال المادية للناس وذلك بسبب حصر الحياة الإنسانية بالحدود الدنيوية، ومن جانب آخر فإن المسائل العقائدية والأخلاقية والصفات الروحية للإنسان لا تقع مورداً للاهتمام منها. ولهذا فإن الحاكم في مثل هذه الأنظمة لا يتحمل مسؤولية ترتبط بأخلاق الناس وعقائدهم.
أما بالنسبة للعقيدة الإسلامية، فإن الحياة الإنسانية لا تنحصر الحدود الدنيوية وإنما ترتبط مباشرة بالحياة الأبدية. ولهذا، فإن قوانين الإسلام تهتم بتهذيب النفوس وحفظ الإيمان وهداية العقول قبل إدارة الأمور العادية.
والتوحيد هو الأصل الأصيل الذي يهتم به الإسلام. ولهذا يقال أن هذه الجملة التي تقال بعد الصلاة: "لا إله إلا الله وحده وحده وحده، تأثر في دفع المنكر والسوء. بمعنى أننا نشاهد في مقام التوحيد جميع الذوات فانية في الذات الإلهية، وجميع الصفات فانية في وصف الحق تعالى، وكل الأفعال فانية في فعله تعالى. لأن تكرار كلمة التوحيد ليس لأجل التأكيد وإنما لتفهيم هذه الأصول الثلاثة للتوحيد: التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي. ولأن الإسلام يهتم بكافة الأبعاد الوجودية للإنسان، ويضع الأحكام والبرامج لجميع المجالات السلوكية والعقائدية، فإن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يدير هذه القوانين ليس فقط من يكون أميناً على الأموال، وإنما الأمين في الدرجة الأولى على الأخلاق والعقائد الإسلامية. وهذا الشخص إضافة إلى معرفته بها ينبغي أن يكون مؤمناً وملتزماً بها أيضاً.
ويعلق المحقق الداماد في حاشية حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما العلم ثلاثة، آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة" بأن معرفة الأصول والفروع بالفقه الأكبر والفقه الأصغر، ويقول بأن قسماً من هذا الحديث الشريف الذي يقسم العلم ناظر إلى أصول العقائد التي هي الفقه الأكبر، والقسم الآخر الذي يشمل الفريضة العاملة والسنة القائمة ناظر إلى الفقه الأصفر وعلم الأخلاق.
وعلى أساس هذا التعبير، لو كان الحاكم الإسلامي لا يمتلك علماً بالفقه الأكبر فإنه لن يكون قادراً أبداً على صيانة الثغور الفكرية للأمة الإسلامية، وكذلك إذا لم يكن عالماً بمسائل الفقه الأصغر فإنه لن يكون أميناً على الحدود والقوانين الإلهية أو قادراً على الوقوف أمام التحريف فيها.
ونعلم مما مضى أن كثيراً من الشروط التي ذكرت في الأدلة النقلية للولي الفقيه ليست إلا إرشاداً لهذه الشروط الواضحة التي يحكم بها العقل البشري. وهذه نقطة ينبغي الالتفات إليها حين الاستدلالات النقلية على ولاية الفقيه.
وكمثال على ذلك، الآية الكريمة التي تنفي تسلط الكافرين على المؤمنين: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾ (النساء/ 141). فهي في الواقع، تهدي إلى هذا الأصل العقلي الجلي من أن غير المسلمين لا يمكن أن يكونوا حكاماً على المسلمين أو حفظة لحرمة القوانين الإسلامية.
أو ما رواه القرآن عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: ﴿أن أدوا إلي عباد الله أني لكم رسول أمين﴾ (الدخان/18). فهو يحكي عن هذا الأمر البين في أن الحاكم الإسلامي هو الأمين على أجساد وأرواح عباد الله سبحانه.
وكذلك الآية الشريفة التي تنفي إمامة الظالمين: ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قل ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين﴾ (البقرة/ 124).
وبالطبع فإن هناك استفادات أخرى من هذه الآية. من جملتها أن الإمامة هي عده الله وحقه وليست حق الناس وعهدهم. وإنها لا تكون بالانتخاب والرأي، بل بالتعيين الإلهي. وإنها مسلوبة من أصحاب السوابق السيئة (الظلم). وسوف يأتي شرح هذا الأمر ضمن استعراض كلام سيدنا الأستاذ العلامة الطباطبائي قدس سره في شرح هذه الآية الشريفة.
* كون الإمامة والقيادة أمراً تعيينياً
من خلال الأبحاث الماضية علمنا أن قيادة المجتمع الإسلامي ليست أمراً انتخابياً أو شورائياً، بل هي تابعة للأمر والتعيين الإلهي. وهنا ننهي هذه السلسلة من الأبحاث بمرض مجموعة من المسائل حول هذه القضية، ونحيل البحث في الأدلة النقلية لولاية الفقيه إلى محله.
أما البحث حول كون الإمامة أمراً تعيينياً فإنه يتم عبر قسمين:
أ- نفي تنصيب غير المعصومين للإمامة.
ب- تعيين الولي الفقيه.
أ- نفي تعيين غير المعصومين للإمامة
ذركنا أن الآية الشريفة التي نزلت في مورد إمامة النبي إبراهيم عليه السلام تشير إلى بعض الأمور.
أحدها أن الإمامة عهد الله وحقه. لأن الله سبحانه قد ذكر في النص ﴿ينال عهدي الظالمين﴾ أن العهد يعود إليه.
والتعبير عن الإمامة بالعهد الإلهي جعل صاحب الكافي يصنف باباً خاصاً في كتابه تحت عنوان "إن الإمامة عهد الله".
الأمر الآخر الذي يستفاد من الآية أن الإمامة منصب وهبة إلهية وليست اكتسابية، لأن كلمة "عهدي" جاءت في الآية بصيغة الفاعل وكلمة الظالمين بصيغة المفعول. فلو جاء التعبير بكلمة "الظالمون" لتغير معنى الجملة وصار أن الظالمين لا ينالون عهد الله، فيبنغي التصور حينها بأن غير الظالمين يمكنهم أن يصلوا إلى هذا المقام. لكن الفاعل في الجملة هو "العهد" الذي هو بيد الله. وكما أن الله أعلم بموع الرسالة بمصداق الآية الكريمة ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام/124) فإنه أعلم بمقام وموضع الإمامة.
والدليل على أن معرفة الإمامة كمعرفة الرسالة مرتبطة بالله تعالى هو أن الإمام- وهذا ما يطرح في الأبحاث المرتبطة بالإمامة- له صفات خاصة تحت عنوان الكلمة التامة فينبغي أن يكون عالماً وعاملاً بجميع الشؤون الإسلامية. وقوياً بحيث لا يمكن أن يقع تحت تأثير العوامل الأخرى. ومثل هذا الإنسان لا يمكن أن يربى في المدارس الإنسانية، وإنما ينبغي أن يكون قد خضع لتربية رب العالمين.
وينقل المرحوم الكليني عن الإمام الحسن عليه السلام أنه أمر خادمه "قنبر" في أواخر حياته بإحضار "ابن الحنفية". وعنه أقبل إليه قال له الإمام: "أحدثك بشيء لو سمعه الأموات لعادوا أحياء".
ويقصد الإمام بهذا الحديث الذي يحي الموتى مسألة الإمامة والولاية، ثم قال عليه السلام: أنت أخي وابن أبي. لكن الإمام من بعدي هو الحسين بن علي عليهما السلام. فلا تظنن أن لك في الإمامة نصيباً لأن الإمامة ليست بالوراثة.
فيجيبه محمد بن الحنفية بعد انتهاء كلامه قائلاً بعد بيان موقعه منه: "الحسين أعلمنا علماً وأثقلنا حملاً وأقربنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحماً كان فقيهاً قبل أن يخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق".
ومع أن ابن الحنيفة لم يكن معصوماً حتى يكون كلامه حجة فقد جعل كلامه حجة عندما عرضه على الإمام المعصوم عليه السلام وسكت عليه وأقره.
وينقل المرحوم الشيخ المفيد عن الإمام الصادق عليه السلام أن أحد أبنائه قال له: أنا وأخي موسى ولداك وكلانا مسلمان نقيم الصلاة. فلماذا تقربه إليك أكثر؟ فقال الإمام عليه السلام: "إنه من نفسي وأنت ابني" يريد بذلك أن يفهمه أن علاقتي بك هي العلاقة الطبيعية بين الأب والابن. أما موسى عليه السلام فهو من نفسي.
ومن الكلام المذكور حول الإمامة وعهد الله نعلم لماذا كانت الإمامة عند متكلمي الإمامية مسألة كلامية ولأن الذي يميز المسائل الكلامية والفقهية هو موضوع الدليل وليس كونه نقلياً أو عقلياً. فإذا كان موضع الاستدلال هو الأسماء والأفعال الإلهية تكون المسألة كلامية. أما إذا كان الموضوع هو فعل الإنسان وتكليفه فسوف تكون المسألة فقهية.
وتعيين الإمام عند الإمامية وإن كان إثباته يتم عبر الأدلة النقلية لكنه تابع للأفعال الإلهية. ولهذا فإن البحث فيه يدور في علم الكلام والالتزام بالإمامة التي نصبها الله تعالى.
والمطلب الآخر الذي يظهر من الآية الشريفة هو أن الله الذي ينصب الإمام ويعينه، لا يمكن أن يختار إماماً من بين أصحاب المعاصي.
وقد ذكر سيدنا الأستاذ العلامة الطباطبائي قدس سره في شرح الآية نقلاً عن أستاذه أنه سئل عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام فأجاب: "أن الناس بحسب القسمة العطلية على أربعة أقسام:
من كان ظالماً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره، ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هكذا. وإبراهيم أجل شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره".