سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
تحدّثنا في العدد السابق حول أهميّة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وغضبه، وعقابه؛ لأنّه المدخل لتجنّب ارتكاب الذنوب والمعاصي، وبالتالي النجاة من عذاب جهنّم. وأمّا هذا المقال، فسوف يتناول أنواع العذاب وأشكاله، وفق ما ورد في القرآن الكريم(*).
•تفكّروا لاجتناب النار
كثيرٌ من الآيات، والروايات، والأدعية يتكلّم عن حتميّة الموت وما بعده، وماذا يوجد في القبر، والبرزخ، وأهوال القيامة، والحساب، والصراط، والنتيجة. عندما يُعرض على الإنسان أيّ شيء من حطام هذه الدنيا ليعصي الله بسببه، مثل المال الحرام، أو العمل الحرام، أو الطعام الحرام، أو الكلام الحرام، أو ما شاكل، ويتذكّر أنّه سيموت، وينتقل إلى تلك الحفرة الضيّقة، حيث سيضعون عليه رصائف، مثلما نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي، ويرمون عليه التراب، ثمّ يتركونه، ويبقى هو في هذه الحفرة وحده دون أنيس، أو حسيس، أو شريك، أو صديق، أو أب، أو أمّ، بل يبكون عليه بضعة أيّام، ثمّ ينتهي كلّ شيء... ولكن ماذا بشأنه؟ ماذا حضّر لتلك الضجعة وذلك البيت الجديد؟
وبعد ذلك يفتح له الله البرزخ، ويُخرجه من القبر إلى ساحة القيامة عرياناً، ذليلاً، حاملاً ثقله على ظهره، ويقف بين يديّ الله عزّ وجلّ، فيعطيه كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.. وعندما يستحضر الإنسان هذا كلّه أمامه، فإنّه سيخاف من جهنّم حتماً، ويرتدع عن فعل الحرام. بعض الناس يعتقدون أنّهم قد يدخلون جهنّم يومين أو ثلاثة، وبعد ذلك يغفر الله لهم، ويُدخلهم الجنّة! ولكن هل يعلم هؤلاء ما هي جهنّم فعلاً حتّى يستخفّوا بعذابها إلى هذه الدرجة؟!
•العذاب الأكبر
يحدّثنا الله كثيراً عن جهنّم والنار في القرآن، فيذكر عشرات الآيات عن النار، وجهنّم، والجحيم، والسعير، والعذاب؛ لأنّ هذا الموضوع أساسيّ وجوهريّ، وليس تفصيل حكم شرعيّ هنا، أو موعظة أخلاقيّة هناك، بل هذا هو ما يحكم مسار الإنسان ومصيره، وهو ما يشكّل رادعاً عنده.
يتحدّث القرآن عن العذاب الذي أعدّه الله للخاطئين، والعاصين، والذين أداروا ظهورهم لهذا الخالق العظيم بتعابير وتوصيفات مختلفة: عذابٌ أليم، عذابٌ نكر، عذابٌ شديد، فيعذّبه الله العذاب الأكبر، عذاب الله، نار الله -ينسب الله النار إلى نفسه، وهذا فيه تعظيم للعذاب- ولعذاب الآخرة أشقّ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى، ولعذاب الآخرة أكبر، ولعذاب الآخرة أخزى، ولهم عذاب الحريق، عذاب يومٍ عظيم، عذاب الهون، عذاب الخُلد، عذاب يوم أليم، عذاب يومٍ محيط -ففي ذلك اليوم الكلّ محاصر ومُحاط به- عذاب الجحيم، عذاب السموم -أي الريح الحارّة التي تدخل إلى القلب، والجسد، والروح-، عذاب السعير، عذاب النار، العذاب المُهين، العذاب الحميم -أي عذاب مع إذلال-، عذاب مقيم -أي مستمرّ ودائم-، عذاب غليظ. والله العظيم هو الذي يصف العذاب بالعظمة، وبالألم، وبالشدّة، وبالقوّة، وبالقسوة، وبالتالي، مهما فكّرنا في الأمر، فإنّ أوهامنا لن تبلغ حقيقة العذاب الذي أعدّه الله يوم القيامة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النعيم، فإنّ عقولنا، وأوهامنا، وخيالاتنا لا تبلغ حجم النعيم: "ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
•مشاهد العذاب في الآيات القرآنيّة
لقد وردت في سور قرآنيّة عدّة، مجموعة آيات هي شواهد حول هذا الموضوع.
1- سورة إبراهيم: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾؛ ومعنى برزوا أنّهم جاؤوا بصورهم ونفوسهم الحقيقيّة، وليس بالظاهر؛ لأنّ الله لا يخفى عليه شيء، ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ﴾؛ أي مجموعين ومربوطين بعضهم ببعض، وهذا غير الأغلال؛ أي مزيد من الإذلال ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾؛ القطران هو نبات موجود في الصحراء، وطبعاً هو مختلف يوم القيامة، لكن هذا تشبيه له؛ مادّة سوداء، لزجة، نتنة، كريهة الرائحة. فالله سبحانه وتعالى يصنع لهم من هذا القطران ثيابهم أو قمصانهم، وهي شديدة الحساسيّة تجاه الاحتراق، فبمجرّد أن يلبسوا هذا القميص، يكتوون به، وتلفح وجوههم النار من شدّة الحريق.
2- سورة الأحزاب: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾؛ يخلّدون في النار، ولا يجدون فيها وليّاً ولا نصيراً؛ أي لا وليّ، أو صديق، أو حميم، أو صاحب، أو حبيب، أو نصير، أو معين، أو أخ، أو أب، أو عم، أو عشيرة، أو حزب... فلا أحد يسأل عن الآخر، وهذا يحصل في يوم القيامة عامّةً، وفي جهنّم خاصّة، حيث يكون كلّ واحد مشغولاً بنفسه، وبالنار التي تصل إليه، والعذاب الذي يواجهه، ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾. يوجد تفسير مفاده: أنّ الملائكة تقلّبهم، مع العلم أنّ النار من فوقهم، ومن تحتهم، وعن شمالهم، وعن يمينهم، ولكنّهم يقلّبون أيضاً مثل الشيء الذي يُشوى، ويوجد تفسير آخر بمعنى أنّ ألوان وجوههم تتغيّر ما بين الأصفر، والأسود، والأخضر، من شدّة العذاب.
3- سورة ص: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾. أسوأ عودة إلى الله سبحانه وتعالى هي للطاغين، ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾. المِهاد هو الفِراش الذي أُعدّ للاستراحة، ولكنّ راحتهم ومكثهم الأخير هو في جهنّم. عندما يدخلون جهنّم ويصلون النار، ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾، فهناك الكثير من الآيات تتحدّث عن شرابهم، وأكلهم، ولباسهم... والحميم هو الماء الذي يغلي بشدّة، فعندما يدخل إلى الفم، يقطّع كلّ الأمعاء، ويزيدهم عذاباً. ثمّة تفسير للغسّاق بأنّه القيح أو الصديد، والدم، واللحم الذائب، وما شاكل، فيضعونه في أوانٍ، ويسقونه لأهل جهنّم، ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾؛ أي هناك أشكال وألوان أخرى للعذاب.
4- سورة الحجّ: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾. هؤلاء تُصنع ثيابهم من النار. والنار في جهنّم غير هذه النار التي نراها نحن في الدنيا، بل هي أشدّ وأقوى، ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾؛ فالإنسان في الدنيا، إذا شعر بالحرّ، يُصبّ له ماء بارد فوق رأسه، بينما في جهنّم يُصبّ له الماء المُغلى، ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾؛ عندما يدخل إلى مِعَدهم وأمعائهم، فإنّه يذوّبها، ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾؛ أي كلّ من يتفلّت من الأغلال، أو يقوم من مكانه فإنّه يُضرب بمطارق من حديد، ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي لا يوجد مهرب، فجهنّم مقفلة: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ (التوبة: 49)؛ لا ضوء فيها أو نسمة هواء باردة. وكلّما أراد الشخص أن يهرب منها، يجد الملائكة الغلاظ الشداد يمسكونه ويثبّتونه.
(*) تتمة كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في إحياء ليلة القدر الثالثة تاريخ 7/6/2018م.