الشيخ علي ذو علم
"لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح اللَّه عليهم ما هو أضرّ منه" (1). ما هي العلاقة بين الدين والدنيا؟ هل يتمكّن مَن يجعل المعارف والأحكام والقيم الدينية الأصل الذي تتحرك على أساسه مسيرة حياته من الجمع بينها وبين إحياء حياته الدنيوية؟ هل يمكن الجمع بين الرفاه والتقدم والنمو والتدين والتقوى والورع أم أنهما مقولتان متعارضتان؟ وهل هناك طريق ثالث بينهما؟
* سعادة الإنسان
يشير كلام أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم إلى أنه قد يحصل التعارض بين إصلاح أمور الدنيا والحياة المادية من جهة وبين الدين من جهة أخرى. ولا يمكن أن نظن أن التدين يلزم منه التغاضي عن الدنيا. ولا يجب الاعتقاد أيضاً بأن الغرق في الأمور الدنيوية يجتمع في جميع المراحل مع مقتضيات التدين. الدين في الأساس وُجد من أجل تأمين سعادة الإنسان والوصول به إلى الكمال الحقيقي والأبدي. ولا يمكن الحصول على هذه السعادة إلا عن طريق العمل والسعي من أجل تدبير عالم الطبيعة والحياة الدنيوية. نعم إصلاح الحياة الدنيوية يمكن أن يشكّل مقدّمة للسعادة الأبدية عند الإنسان.
بناءً على هذا فالأحكام الإلهية يمكن أن ترسم بعض القواعد التي إذا ما تمّت رعايتها يصل الإنسان إلى السعادة وإلا فإنه سيلحق الضرر بهذه السعادة. إذاً، دور الدين في الدنيا ليس دوراً سلبياً وليس دوراً رقابياً بعيداً، بل هو دور أساس وهام ومحدّد وموجّه. الدين هو الذي يصنع دنيا الإنسان، وهو الذي ينظّم الدّنيا على أساس التّوجيه والانتظام باتجاه الآخرة، فتصبح الدنيا هي الطريق الذي يؤدي إلى سمو وكمال الإنسان. بناءً على ما تقدّم يوضح كلام الإمام علي عليه السلام نقطة هامة وهي أنه لا يجب أن نتصور أن ترك بعض الأمور الدينية يمكنه إصلاح أمور الدنيا، بل العكس هو الصحيح، فإذا ما تركت الأمور الدينية في سبيل الدنيا فإن اللَّه تعالى يجعل ضرر تلك الأمور الدنيوية أكبر من ضرر الأمور الدينية فيما لو كانت موجودة ظاهراً. طبعاً هذه سنّة اللَّه تعالى في الحياة الإنسانية حيث تكون رعاية القيم والأحكام الإلهية هي الطريق الصحيح والمفيد في سبيل إصلاح الدنيا. ومن الخطأ التوهُّم أن ترك أحكام اللَّه يساهم في السعادة الدنيوية.
* ظنون باطلة
قد نشاهد بعض الأشخاص الذين يُظهرون التدين إلّا أنهم يقعون في الاشتباهات والسلبيات نتيجة عدم الإدراك الصحيح لهذه القضية الأساس؛ فيظن البعض أنه يحقق السعادة والزيادة والرفاه إذا ما مارس الرشوة والربا والإجحاف والإضافة في البيع، ويظن آخرون أن الغش والخداع قد يساهم في إصلاح الأمور، ويعتقد غيرهم أنّ ثروتهم تزداد وتكبر إذا ما تركوا الواجبات كالخمس والزكاة، ويرى بعضهم أيضاً أن المظاهر الخادعة وعدم رعاية الحرمات مع غير المحارم قد يؤدي إلى شهرتهم وجذب الناس إليهم، وهناك من يظن أنّ الغرق في اللهو والهوى والحرام يساعدهم في الابتعاد عن الحزن والغم.
هذه ظنون باطلة تؤدي إلى ترك الأحكام والأصول الأخلاقية والدينية. وهي مصدر الفساد والمشكلات التي تكون في النهاية من أهم عوامل السقوط والانهيار. وقد نشاهد هذا الفهم الخاطئ على مستوى الأمور العامة في المجتمع وفي المسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فيظن بعضهم أن مشكلات المجتمع يمكن معالجتها بواسطة ترك الأصول المسلَّمة والقطعية في الإسلام... وهكذا في العديد من الموارد حيث يضحّون بالقيم والأحكام الإلهية تحت عناوين الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
* رعاية الأحكام الإلهية
أما الأسباب الحقيقية والجذور الفكرية لهذه الأمور فتحتاج إلى أبحاث مستقلة ومفصلة. إلا أنه يجب الاعتراف بأن عدم التوكل على اللَّه تعالى هو مصدر جميع هذه الأباطيل. وسبب هذا الأمر ضعف الإيمان والمعرفة. أما المؤمن الحقيقي والذي شرب من نبع التوحيد الخالص والمتوكل على اللَّه تعالى في جميع الأمور والذي يعتبر أن الخالق تعالى هو المؤثر الوحيد في جميع الأمور فلا يقع في هكذا اشتباهات على الإطلاق. لذا فهو وأمثاله يتكلون على اللَّه ويوقنون بأنّ ما يجب الحفاظ عليه في الحياة الدنيا من أجل السعادة الأخروية قد أعطاه اللَّه تعالى وأجازه وقدّمه في الشريعة المحمدية الكاملة. وعلى هذا الأساس فإنهم يعتقدون من دون اضطراب وحيرة أنّ رعاية الأصول والقيم والأحكام الإلهية هي الأساس في تدبير الأمور الحياتية، فالمؤمن العاقل لا يضحي بدينه من أجل دنياه.
(1) نهج البلاغة، (خطب الإمام علي عليه السلام)، الشريف الرضي، حكمة رقم 106، ص 25.