إنّ الإسلام كان قد ابتلي منذ البداية بالمحنة، وكانت محنته في عدم إدراك المسلمين للإسلام. فالذين يدرسون الإسلام لم يفهموه بجميع أبعاده، كلّ واحد أدرك بُعداً من أبعاد الإسلام وفسّر قضايا الإسلام والقرآن الكريم طِبقاً لذلك الإدراك.
*من وجهة نظرهم
لقد فسّر جماعة المتكلّمين، في القرون السّابقة، الإسلام حسب فهمهم الكلامي. وجماعة أخرى من الفلاسفة فهموا الإسلام كفلسفة، والجماعة الثالثة العرفاء، كانوا قد فسّروا الإسلام بالفهم العرفاني. فكل طائفة درست الإسلام حسب فهمها، وأرجعت كلّ الآيات وأخبار النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام إلى وجهة نظرها. لذلك لا يوجد في تفسيرهم خبر عن البعد الدنيوي أو نظام الحكم في الإسلام. وكل المواضيع التي اهتموا بها كانت فلسفيّة وعرفانيّة.
*الإسلام مادةً ومعنى
أمّا ما هي وظيفة الناس في الأيام التي يعيشونها؟ كيف تكون الحكومة الإسلامية؟ كيف يجب أن يتعامل النّاس مع الطبيعة؟ لا يوجد شيء عن ذلك في كلامهم. درسوا فقط المواضيع التي ترتبط بما وراء الطبيعة والمسائل العرفانية والفلسفية. إلى أن وصل الأمر إلى الطبقة المتأخرة، فعمل هؤلاء على العكس من أولئك، أي إنّ هذه الطبقة تركت الأبعاد المعنويّة، والفلسفيّة، والعرفانيّة للإسلام جانباً بشكل عام، ونظرت إلى الظّاهر فقط. إنهم تصوّروا أن الإسلام رسالة ماديّة، كما تصور أولئك أن الإسلام رسالة معنويّة مفصولة عن المادة أساساً، بل إنهم أوّلوا الآيات المتعلّقة بقتال المشركين، بالقتال مع النفس وأمثال ذلك.
وفي مقابل أولئك، وفي الوقت الذي وصلت إلينا علوم الغرب ودعاياته، نجد أنّ معرفة هؤلاء بالإسلام - رغم كونهم مسلمين - تقتصر على بعده المادّي فقط. فيما كان أولئك يدعون إلى الباطن ويغفلون عن الظاهر والطبيعة، نرى هؤلاء يدعون إلى المادة ويغفلون عن المعنويّات، وكلاهما أخطأ.
الإسلام غير محدود في المعنويات ولا في الماديات. الإسلام رسالة نزلت لتربية الإنسانية. يجب أن نعرف ما هي أبعاد هذا الإنسان الذي يقول بعض الناس عنه إنه مجهول الماهية، ما هي احتياجاته؟ وهل إنّ الإسلام جاء لتربية جوانبه الحيوانية فقط؟ أو جوانبه المعنويّة فقط؟ أو أن الإسلام يريد تربية الإنسان؟
*إنسان في كل الأبعاد
ليس الإنسان كسائر الموجودات، فإدراك الحيوان عمّا وراء الطبيعة إدراك ناقص، أمّا الإنسان فيستطيع أن يسير من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة ومن ما وراء الطبيعة إلى الألوهية، إلى أن يصل إلى فهم ذلك كلّه.
الإنسان كائن جامع، ذو أبعاد متعددة ولكلّ من أبعاده حاجات. أما المدارس الفكريّة الأخرى الموجودة في العالم فهي مادية تصوّرت الإنسان حيواناً، وأنّ جميع أموره تتحرك ضمن هذه الحدود وتكامله يتمّ ضمن الاعتبارات المادية فقط. في حين أنّ هناك عوالم أخرى لم يدركوها، ولتلك العوالم حظّ أكبر من العينيّة بالنسبة إلى عالم الطبيعة.
إنّ عالم الطبيعة يقع في آخر مراتب موجودات عالم الوجود، أي إنّ عالم الطبيعة هو نهاية عالم الوجود، وهو أدنى العوالم. ليس صحيحاً أنّ الإنسان وحده الموجود وله هذه الطبيعة فقط، وليس ثمة مراتب أخرى بعد ذلك، بل للإنسان مراتب، والذي طلب المرتبة العليا للإنسان وغفل عن هذه المراتب قد أخطأ، ومن تمسّك بعالم المادة، فشهد مرتبة الطبيعة وغفل عمّا وراء الطبيعة فقد أخطأ أيضاً. إن للإسلام منهجاً ومسلكاً لهذا الإنسان الذي له مراتب من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة ومما وراء الطبيعة إلى الألوهيّة.
*الإنسان الكامل
إنّ الإسلام يريد أن يربّي إنساناً جامعاً [لكل الأبعاد] يربيه بالصورة التي هو عليها وفي كل الأبعاد: فينمي فيه البعد الطبيعي، والبعد البرزخي، والبعد الروحي، والبعد العقلي، وينمي فيه البعد الإلهي أيضاً. إن جميع الأبعاد التي يمتلكها الإنسان هي بصورة ناقصة ولم تصل إلى درجة الكمال، وجاءت الأديان لإنضاج هذه الثمرة غير الناضجة، وإكمال هذه الثمرة الناقصة.
لذلك على المسلمين المقيمين في الغرب، الغافلين تماماً عما وراء الطبيعة، أن لا يخدعوا بمدارسهم الفكرية. لا تظنوا أنّ الإسلام جاء ليربي حيواناً، يريد الإسلام أن يربي الإنسان ليكون كائناً متكاملاً يمتلك جميع الأبعاد. والإسلام يمتلك لكلٍ منها تعليمات. في الإسلام أحكام للحكومة الإسلامية، ولمؤسساتها، ولمواجهة الأعداء، ولتحريك المجتمع من أجل الوصول إلى ما وراء الطبيعة. وليس الإسلام آحاديّ الجانب، ليقول الإنسان إنني عرفت الإسلام، وعرفت تاريخه مثلاً، أو لنفرض ما كانت عليه حياته البشرية، وقوانينه الطبيعية وأمثال ذلك. فليس الموضوع كذلك، إن قضايا الإسلام أسمى من هذه المعاني ولها أبعاد كثيرة.
*انظروا في القرآن
فمن يريد أن يعرف الإسلام، عليه أن ينظر جيداً في القرآن الذي هو المبدأ الأساس، ويلاحظ جميع الأبعاد الموجودة فيه وأن لا يقول: أنا أقبل الآيات المتعلقة بالطبيعة والحكومة فقط، أما الآيات المتعلّقة بيوم القيامة فلا أقبلها، لأنّ هذا الإنسان لا يعلم ما معنى القيامة وما هو ذلك اليوم الذي سيأتي، فيظن الأمر وهماً. إنه أمر عينيّ وعينيّته أكثر من عينيّة هذه الطبيعة. غاية الأمر نحن لم نصل إلى ذلك. وعلى أي حال أوصي الطلاّب المقيمين في الخارج أن لا يحدّدوا الإسلام ضمن أُطُر. وأن لا يظنّوا أن المدرسة الإسلاميّة كالمدرسة الشيوعيّة أو الماركسيّة أو المدارس الأخرى. كلاّ، إنها ليست مثيلتهم في شيء.
* كلمة للإمام قدس سره ألقاها في 14/10/1978.