مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: أمير المؤمنين عليه السلام حاكـماً


الشيخ تامر محمد حمزة


بالرغم من المدّة القصيرة لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام التي لم تتجاوز الأربع سنوات وسبعة أشهر، فقد قدَّم نموذجاً عملياً ونظرياً في الحكم والإدارة، وهما يعدَّان من أهم الأهداف للأنبياء عليهم السلام على مر التاريخ. وقوامهما العلم والعدل من جهة، والاقتصاد والقوة من جهةٍ أخرى. ولذا كانت شخصية أمير المؤمنين الحاكمية تجلياً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحديد: 25).

وقد قرن عليه السلام تجربته الفريدة بنظريِّةٍ شاملةٍ لكل جوانب الحكومة، ومنسجمةٍ مع الأبعاد الرباعية لعلاقة الإنسان مع ربه ونفسه ومع الطبيعة والناس.  وأمَّا الخطوات العملية لتلك الشخصية الحاكمية فظهرت خلال مرحلتين.


الأولى: شخصيَّته خلال فترة تولّيه للخلافة
إنَّ أسباب تولّي أمير المؤمنين عليه السلام للحكومة معروفة تاريخياً؛ حيث إنه جاء بناء لطلب الناس بعد مقتل الخليفة الثالث. وقد وجدوا فيه الحاكم العادل والواعي والقادر على حلِّ كلِّ التعقيدات التي تراكمت بسبب السياسات السابقة على عهده, علماً أنه لم يكن يرغب بالتصدي؛ لأنه لا يستطيع أن يحكم مجتمعاً له رؤيته وثقافته المكتسبة من العهود الماضية حيال الحكَّام والناس والثروات التي بين أيديهم. وهنا يقول: "فما راعني إلا والناس كعرف الضبع (1) إليّ ينثالون (2) من كلّ جانب, حتى لقد وُطئ الحسنان, وشُقَّ عطفاي (3) مجتمعين حولي كربيضة (4) الغنم" (5).  إذاً، التحديات أمامه صعبةٌ وخطيرة، فمن جهةٍ يريد أن يربي الناس على ثقافةٍ مغايرةٍ لما تربوا عليه سابقاً, من إلغاء الفوارق الاجتماعية والقضاء على التمايز العنصري, والتساوي في العطاء بين الشريف والوضيع، ومن جهةٍ أخرى يريد وضع نُظُم وقوانين جديدة تتعلق بالإدارة والحقوق والاقتصاد.

وأما شخصيته عليه السلام بالنسبة لمبدأ المساواة، فيقول: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه" (6). وأما بالنسبة لأموال الخزينة فيقول: "وكل مال أعطي من مال الله فهو مردود في بيت المال فإنَّ الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تُزُوِّج به النساء ومُلك به الإماء وفُرِّق في البلدان لرددته، فإنَّ في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق" (7).

وأمَّا بالنسبة للعمل الإداري، فعمد إلى عزل العناصر الفاسدة وتطهير المواقع من الأفراد المفسدة لأنه يرى أن تولّي أمر الأمة من قبل السفهاء والفجار يؤدي إلى انهيار الدولة واقتصادها وإليه يشير بقوله: "ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها؛ فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً" (8).  ثمَّ عمد عليه السلام إلى تعيين رجالٍ معروفين بنزاهتهم، أمثال عثمان بن حنيف وسهل بن حنيف ومالك الأشتر وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم. وبما أنه عليه السلام كان يعتبر أنَّ الحكم ضرورةٌ اجتماعية بغية حفظ النظام العام انطلاقاً من قوله: "لا بدَّ للناس من أمير برٍّ أو فاجر" (9)؛ ولأنَّه يرى عدم جواز السكوت على الاستبداد والظلم انطلاقاً من قوله: "أما والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة (10) لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة (11) ظالم وسغب (12) مظلوم" (13)، كان قبوله بتولي الخلافة وممارسة السلطة من خلال الإصلاحات التي تم ذكرها.

* الثانية: كلماته عليه السلام حول الحكومة وشخصية الحاكم
أولاً: يحتاج النظام العام والمحافظة عليه بنظر الإمام عليه السلام إلى رؤيةٍ اصطُلح عليها بالإمامة، حيث يقول: "الإمامة نظام الأمة" (14).

ثانياً: يعتبر الإمام عليه السلام أنَّ المقوِّم الأساس للأمة وضمانة إصلاحها هو العدل، وإليه أشار بقوله: "العدل قوام الرعية" (15)، وقوله: "الرعية لا يصلحها إلا العدل"(16).

ثالثاً: يرى عليه السلام أنَّه يوجد فرق كبير بين تسخير الدولة بكلِّ مكوناتها وإمكانياتها في خدمة الدين وبين تسخير الدين وجعله مجرّد غطاء لممارسة السلطة، وهنا يقول: "من جعل ملكه خادماً لدينه انقاد له كل شيء" (17) ويقول: "الملوك حماة الدين" (18).

رابعاً: يرى الإمام عليه السلام أنه يجب أن توفِّر الحكومة لرعيتها التربية والتعليم لرفع الجهل عنهم، ولمعرفة الحدود والوقوف عندها، وهنا يقول: "وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا" (19).

خامساً: الاهتمام بعمارة الأرض والبلاد وتوفير الأمن لها داخلياً والدفاع عن استقلالها, وهذا ما كان ينعكس في كلماته حيث ورد عنه قوله: "ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك" (20) وقوله: "وتعاهد ثغورهم وأطراف بلادهم" (21). وبما أنه لم يفصل بين شخصية الحاكم والسلوك العملي نجده عليه السلام قد أطال الكلام في صفاته، وسنشير إلى بعضها على مستويين:

* المستوى الأول: النفسي والروحي
أـ الانقياد للحق وعدم اتباع الهوى
من الواضح أنَّ الحاكم المنقاد للحق ولم يكن هواه هو محرِّكه في إدارة الدولة، فسوف يتبوأ مقام التقدير والإجلال من جهة، ومن جهة أخرى يتخذه الناس إماماً، ويدل عليهما قوله: "من اتخذ الحق لجاماً اتخذه الناس إماماً" (22).

بـ - حسن النية
من أجمل صفات الحاكم عدم اختلاف نيته وسريرته عن ظاهره وحسن أفعاله إذ آثاره الغيبية عظيمة ويستحق التوفيق والتسديد من الله تعالى، وإليه أشار بقوله: "أصلح سريرتك يصلح الله علانيتك" (23).

ج – الحلم
يواجه الحاكم في كلِّ لحظةٍ ما يستفزّه ويثير حفيظته، ولذا فعليه أن يواجه ذلك بصدرٍ رحبٍ وأسلوبٍ هادئ، فإنَّ معالجة الأمور حالة الرضا تختلف عنها حالة الغضب، ففي الرضا ربما يعفو، وأمَّا في الغضب فقد يقوده إلى الانتقام، والنتيجة واضحةٌ بين عفو الحاكم وانتقامه، وقد أشار إليه بقوله: "آلة الرئاسة سعة الصدر" (24).

د النزاهة وعفّة النفس
نزاهة الحاكم وعفَّته صفتان تعزِّزان الثقة به ويسقط عنه الاعتذار إلى النّاس فضلاً عن كونهما فضيلتين في شخصيته، وهنا يقول: "أفضل الملوك أعفّهم نفساً" (25).

* المستوى الثاني: العملي والسلوكي
أـ الاقتصاد والتدبير

إنَّ السياسة الاقتصادية للحاكم التي تقوم على التخطيط والتوازن في الإنفاق، بحيث يملك الرؤية الواضحة في إنجاز المشاريع لتلافي التبذير والإسراف التي تؤدِّي إلى قوة الدولة وتقديم الرفاه للرعية وهما ضمانة الاستدامة للحكومة، فيقول: "لن يهلك من اقتصد" (26)، ويقول: "حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة" (27)، ويقول: "حسن السياسة يستديم الرياسة" (28).

ب العدل والإنصاف
مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه أنَّ العدل هو الأساس لاستمطار الرحمة الإلهية واستدرار رضا الرعية وأنه الحصن المنيع للسلطة فضلاً عن الموقع الذي يتبوأه الوالي وعن جميل الأحدوثة التي يكتسبها ولو مع مرور الأيام والليالي. وهنا أطال الكلام فيه كقوله: "ملاك السياسة العدل" (29)، وقوله: "من عمل بالعدل حصن الله ملكه" (30)، وقوله: "أفضل الملوك سجية من عم الناس بعدله" (31)، وأيضاً قوله: "من كثر عدله حمدت أيامه" (32).

ج الإحسان للرعية
يجب أن يكون الإحسان للرعية على قاعدة تأدية الحقوق الواجبة على الدولة اتجاههم وليس على أساس إغرائهم ليستمر هو في تسلطه عليهم. وأما منعهم من حقوقهم فسوف يؤدي إلى ظلمهم ويكون سبباً لخذلانهم له بما يؤول إلى الفشل وسقوط الحكومة، وأشار إلى ذلك بقوله: "من أحسن إلى رعيته نشر الله عليه جناح رحمته وأدخله في جنته" (33)، وأيضاً قوله: "من أحسن الكفاية استحق الولاية" (34).

د الهيكليَّة والتشكيلات
لا بد لنجاح العمل وقيام الدولة من تحديد الوظائف والأدوار وبموجبه في كلِّ وظيفة يتم تعيين عامل يسأل عن عمله ويكلِّف أشخاصاً بأدوارٍ محددة، وبذلك تستقيم الأعمال ولا يتواكل العمال، وأشار إلى ذلك بقوله: "اجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به فإن ذلك أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك" (35).

* خاتمة
إنَّ تولّي السلطة والإدارة السياسية للأمة إن كان هدفاً وغايةً فهو مذلَّة الحكَّام وزلة الأقدام وغشاوةٌ للبصر عن خدمة الأنام، وأما لو كان وسيلة وسبيلاً لإقامة العدل وحفظ النظام العام فهو الغاية والمرام لأمير المؤمنين عليه السلام ومن انتهج نهجه. وهنا يبين النظرتين للحكام بقوله: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام, ولكن لنرد المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك" (36)، وحينها نقول بقوله: "دولة الأكارم من أفضل الغنائم" (37).


(1) كعرف الضبع: يراد به الكثرة والازدحام.
(2) ينثالون: يتتابعون مزدحمين.
(3) شُق عطفاه: خُدش جانباه من الاصطكاك.
(4) ربيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 1، ص 35.
(6) م. ن، ج 1، خطبة رقم 37، ص 89.
(7) انظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 269.
(8) نهج البلاغة، م. س، ج 3، ص 120.
(9) م. ن، ج 1، ص91.
(10) برأ النسمة: خلق الروح.
(11) كظة ظالم: المراد استئثار الظالم بالحقوق.
(12) سغب: هضم الحقوق.
(13) نهج البلاغة، م. س، ج 3، ص 16.
(14) عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 44.
(15) م. ن، ص 30.
(16) م. ن، ص 48.
(17) م. ن، ص 427.
(18) م. ن، ص 24.
(19) نهج البلاغة، م. س، ج 1، خطبة 34، ص84.
(20) م. ن، ص 13.
(21) عيون الحكم والمواعظ، م. س، ص 81.
(22) م. ن، ص 23.
(23) م. ن، ص 75.
(24) نهج البلاغة، م. س، ج 4، ص 42، الحكمة رقم 176.
(25) عيون الحكم والمواعظ، م. س، ص 111.
(26) م. ن، ص 408.
(27) م. ن، ص 229.
(28) م. ن.
(29) م. ن، ص 468.
(30) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 2، ص 937.
(31) عيون الحكم والمواعظ، م. س، ص 120.
(32) م، ن، ص 455.
(33) م.ن، ص 439.
(34) م. ن.
(35) نهج البلاغة، م. س، ج 3، ص 57.
(36) م. ن، ج 2، ص 13.
(37) عيون الحكم والمواعظ، م. س، ص 249.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع