مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

بناء الحضارة همّة وإرادة

د. غسان طه



*الحضارات في سياق تاريخي
الواقع التاريخي يفصح عن وجود حضارات بشرية متعاقبة حيث لكل قوم من الأقوام تاريخهم وتقاليدهم وتراثهم الثقافي والحياتي، وبالتالي لكل قوم حضارتهم. لكن هذه الحضارات على تنوع تقاليدها وتراثها وتعدد فروقاتها ليست سوى نتاجات الإرادات البشرية، إذا تلكأ قومها أو تقاعسوا وعجزوا أو تعاجزوا عن العمل تفقد حضارتهم مقوماتها الإنسانية بل تفقد مبررات وجودها، ويكون مصيرها الزوال. لقد كانت هناك حضارات على غرار حضارة بلاد ما بين النهرين والحضارة الهندية والفرعونية في بلاد الشرق وقامت حضارات رومانية ويونانية ومكسيكية في الغرب اندثرت لتحل محلها حضارات من نوع آخر على غرار حضارة الغرب في عصرنا الراهن وحضارة الإسلام. هذه الحضارات على تنوّعها وتعددها وتنوع عاداتها وتقاليدها وتراثها هفت نحو تبديد قلق وجود الإنسان وتسهيل علاقاته مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً. لم تكن القيم والإبداعات الإنسانية في الفلسفة والفن والأدب وشتَّى ميادين المعرفة سوى المادة الحضارية التي قدمتها الشعوب لبناء فلسفتها الحياتية ولبناء علاقاتها مع غيرها من شعوب أخرى. لقد كانت نتاج الإنسان في عقله المبدع ونشاطه الخلاّق. ولكن السؤال الذي يجد له محلاً للطرح أنه إذا كانت الحضارة من صنع الإنسان وإذا كان البشر في تواريخهم وأفكارهم وحضاراتهم ينتمون إلى النفس الإنسانية الواحدة فما هي العوامل التي تجعل سلوكياتهم مختلفة وبالتالي لمَ قامت حضارات في أماكن تجمّعات بشرية دون غيرها؟ وما هي العوامل التي تسبب حركة التغيير لجماعة دون غيرها؟

*علاقة الدين بالحضارة
إن بروز الحضارة يرتبط باللحظة التي يجسد فيها الإنسان قدرته في التغلب على مصاعب الوجود، ومدى التوازن الذي يقيمه مع الطبيعة، وتجاوزه لواقع وجوده الراهن بهدف الوصول إلى ما هو أفضل. وقد تنوعت الآراء لدى رجالات الفكر والمعرفة حول أسبقية العوامل التي تؤدي إلى قيام الحضارات، غير أن هذه العوامل على تنوعها ترتبط بلا شك بالهمة المضاعفة للإنسان في سبيل الوصول إلى مبتغاه. هذه الهمة يمكن لها أن تكون مشتركة بين بني البشر، ولكن يبقى أن الهمة ترتبط بمنطلقات قد تكون مادية أو روحية، إذ لا بد للفعل من أن ينطلق من تصور للهدف ومن غاية تبرر وجوده. ومن هنا سوف نفرد لدور الدين بحثاً مستقلاً باعتبار أهمية العامل الديني في أساس التشكل الحضاري، فالحضارة برأي توينبي تنشأ من الأديان لا من شيء آخر. فالدين برأيه هو العنصر المهم الذي يجب أن يفسر التاريخ على أساسه حتى العلاقات الاقتصادية والسياسية يجب أن تدرس في ضوء أفضلية الدين(1). فالدين هو من العوامل الذاتية التي تدخل في تصنيفه للحضارات الأصلية، في حين أن ثمة حضارات أخرى مشتقة جراء ثمرة الاحتكاك والتفاعل والاقتباس وحتى مع إرجاعه للعوامل الخارجية في تكوين الحضارات غير الأصلية فإن كلا العوامل الذاتية كالدين والخارجية الناتجة عن التثاقف إنما تعود إلى الهمة المضاعفة التي لولاها لما كانت الحضارات(2).

الدين يفتح آفاق العقل على التطور وعلى بناء الحضارة وفق معايير الشريعة والعدالة والاستخلاف، والتثاقف يفتح المجال أمام البشر للتعرف إلى الوسائل المادية والمعنوية للحضارة. وبدون إرادة التغيير ليس ثمة أمل في الولوج إلى ميدان التطور.


فيما يخص الدين الإسلامي نجد أنه منذ ظهور دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أحدثت هذه الدعوة ثورة في المفاهيم التي سرعان ما شفّعت بالإرادة وهمة العمل من أجل قلب ما كان سائداً أيام ما يسمى بالجاهلية التي اختزنت منظومة مفاهيم منغلقة ومحدودة الأفق والروح فجاءت دعوة الإسلام لتزعزع في العمق العمران البدوي الوثني في معظم القبائل جراء التبدل الجوهري في النظر إلى الدنيا. جراء الفاعلية التي أرستها مبادئ الدين حفل التاريخ الإسلامي ببروز حضارة ممتدة عبر التاريخ من بين علاماتها الفارقة بروز علماء مسلمين راحوا يعلّمون الأمم وبرزوا كموئل للاقتباس في أعمال الخوارزمي وابن النفيس وابن سينا وغيرهم، وهاجرت معهم الفلسفة فاستقرت في جامعات الغرب وأحدثت فيها نهضة فكرية(3).

*أفول الحضارات
عندما درس "ول ديورانت" تاريخ الحضارات توصل إلى حقيقة أساسية مفادها أن "الحضارة تبدأ حين ينتهي الاضطراب والقلق". عندما ظهر الإسلام نمت دعوته في أعقاب الاستقرار الذي منحه للمجتمع، فيما عانت الحضارات أزمات سرعان ما أدت إلى ضمور بعضها وأفول بعضها الآخر والتي سرعان ما احتضرت عشية الوحي. الوثنية كانت في زمنها الأخير بمثابة خواء روحي وفراغ إنساني وغدت طقوسها عاجزة عن إعطاء أي دلالة، وانزوت اليهودية وفقدت إمكانية تواصلها العملي، وكانت المسيحية تعاني في الشرق، بما في ذلك بيزنطية وفارس، من تعددية أرخت بسلبياتها على عظمة الحضارات القديمة، كما ساهمت في عزل المسيحية عن روحانيتها، وكانت الزرداشتية الفارسية تحولت إلى ذكرى. كل ذلك جراء الأفكار المتناقضة والعبادات العاجزة عن تجديد حركة الحياة التي أسفرت عن تدهور عقيدة التوحيد، وطالت بسلبياتها البنية الاجتماعية فأوقعت فيها تفككاً عميقاً. وبذلك يمكن القول إن إرادة الإبداع فقدت روحانيتها ووحدتها الداخلية. في حين أن توسع الإسلام لم يكن جراء القوة العسكرية التي تجلت في الفتوحات وإنما بسبب رؤيته الديناميكية للعالم وللمجتمع وقدرته على تجديد قيمة المسؤولية الشخصية في مجتمعات رسا فيها النظام الإقطاعي، فحمل رؤية توازنية للعالم، وبالتالي فإن حضارة المسلمين جاءت بفعل قدرة الإسلام على ضبط القلق القديم لحضارات أربعة آلاف عام غرقت فيها في لجة غصب الجماهير المرهقة والمُهانة والطامحة نحو بناء نظام يقوم على العدالة.

*الهمة المضاعفة ودور الدين
سبق أن تحدثنا عن دور الدين في قيام الحضارات ومن ثم أفول حضارات نشأت أو تراجعت وبينها حضارة المسلمين مع بقاء العامل الديني، غير أنه في مجال الربط بين العامل الديني وتلازمه مع الهمة المضاعفة يمكن معرفة أسباب تقدم المسلمين وتخلفهم باعتبار الدين يفتح ممكنات العقل ويشحذ الهمم ولكن كل ذلك يرتبط بإرادة الإنسان حيث يقول تعالى في كتابه الكريم ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: 11). التغيير مقرون بالناس في مدى استعدادهم للعمل وتحملهم الصعاب في السير نحو كمالاتهم، ولذلك تعد إرادة التغيير سنة من سنن تطور التاريخ وهو ما يعبر عنه بالهمة المضاعفة. حين تفتقد هذه الهمة ينطبق على الأمة مصداق قوله تعالى ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (النحل: 61). الأجل هو الموت الحضاري لأن حياة الأمم مرتبطة بمدى فاعلية وحيوية عناصر ثقافتها التي تمد أفرادها بطاقة إضافية وتحفزهم على إعمال الهمم في سبيل بناء الحضارة ودوام استمرارها.

من ضمن حيوية العناصر الثقافية ارتباطها بدوافع الإنسان وحاجاته المادية والروحية. في عالمنا الراهن قامت الاشتراكية والرأسمالية المعاصرة على أساس فكرة رفاه الإنسان مع إحلال العدالة. هاتان الفكرتان شكلتا العامل الأبرز في إضفاء الهمة والحيوية على شعوب تلك البلدان من أجل بناء نموذجها الاشتراكي أو الرأسمالي، غير أن النموذج الأول انتهى إلى الأفول مع الإحساس بعدم تحقق ما كان يرنو إليه المجتمع، آنذاك قامت الاشتراكية ولم يتحقق الرفاه. ثم قامت الرأسمالية فتحقق الرفاه ولم تتحقق العدالة بل ترافق الرفاه مع الجشع وبث الفوضى في البيئة، وانعدام المساواة بين الشعوب جراء قوة القهر التي تمثلها الرأسمالية المتوحشة. ولذلك إن العالم الإسلامي مدعو اليوم لبناء نموذجه الخاص الذي يقيم للعدالة وللقيم الإنسانية الحقيقية وزناً.

والدين الحنيف يحفل بالكثير من مثل هذه القيم ويدعو إليها ولكن مدى تحققها وجعلها تنتقل إلى حيز الواقع وإحلالها في ميدان البناء الحضاري العام يحتاج إلى إرادات شعوب الأمة الإسلامية وهو ما يمكن تسميته بالهمة المضاعفة.


1- د. جورج حنا، الحقيقة الحضارية، دار العلم للملايين، ص24.
2- علي الشامي، الحضارة والنظام العالمي، دار الإنسانية، ص67.
3- فردريك معتوق، مرتكزات السيطرة الشرقية، ص77.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع