صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

من القلب إلى كل القلوب: روح الشَّريعة حفظ النِّظام

  سماحة السيد حسن نصر الله



نرى في هذا الكون النظام والدقّة والحكمة والعظمة والقوّة، وهي كلّها تكشف عن صفات الخالق الذي أوجد هذا الكون. وعندما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، سواءً في البعد الجسديّ أو فيما يتعلّق بالروح الإنسانية التي هي أكثر تعقيداً من الجسد، خلقه على أساس نظام دقيق جداً.

* الإنسان يخضع لنظامين
كذلك من الواضح القول إنّ كلّ ما هو خارج إرادة الإنسان وقدرة الإنسان يسير ضمن نظام تكوينيّ قهريّ وهو خاضع لسُنَن صارمة وقوانين حاسمة وقاطعة وضعها الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود وفي هذا الكون. كذلك وضع الله سبحانه وتعالى لحياة الإنسان نظاماً أمره باتّباعه، وهذا النظام نسمّيه الدين أو الشريعة. والفرق بين النظامين أنَّ النظام الأوّل خارج إرادتنا واختيارنا ونحن خاضعون لسُنَنِه وقوانينه، لا نقدر على أن نفعل شيئاً، فحركة الشمس وحركة الأرض حول نفسها والمنظومات الشمسية والنجوم كلها مواضيع خاضعة لقوانين.

* النظام التشريعي
أمّا النظام الثاني فهو يتعلّق بالقضايا التشريعية، التي تركها لنا الله سبحانه وتعالى ليختبرنا، ولأنه أراد أن نصل إلى سعادتنا أو شقائنا، إلى كمالنا أو ضياعنا بإرادتنا هيّأ لنا كلّ الإمكانات وكلّ السبل. في هذه الدائرة التي هي دائرة تخيير الله سبحانه أراد لنا أن ننظِّم أمورنا. لذلك نجد أنّ روح التنظيم سارية في كلِّ الشريعة، في البعد العبادي، والمعاملاتي والأخلاقي.

في وصيّة الإمام عليه السلام:
أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في اللحظات الأخيرة، عندما جمع إليه الحسن والحسين عليه السلام وبقيّة أولاده وأهله، قال لهم في ما قال في الوصية: "أوصيكما وجميع وُلدي وأهلي ومن بلغه كتابي، أوصيكما بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام"(1).

إذن موضوع نظم الأمر كان أمراً مفصليّاً وجوهرياً إلى حد أن يؤكد في مطلع وصية الإمام عليٍّ عليه السلام للحسنين وأهل بيته وولده وجميع من بلغه كتابه، وقد بلغنا كتابه، فهو يوصينا نحن أيضاً. تقوى الله تعني اجتناب معصية الله، أو اجتناب الحرام والقيام بالواجبات. نظم الأمر يعني أن تكون أمورنا كلها منظّمة مرتّبة. وصلاح ذات البين أن لا نتخاصم وأن نتعاون وأن نتماسك، أن نكون سوياً كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله في معركة بدر يقف وينظِّم الصفوف، كذلك في صلاة الجماعة. وقد ورد في بعض الروايات أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله كان يقف في المسجد في المدينة وينظِّم الصفوف، وحتّى في بعض الروايات أنَّه كان يرتب الصفوف حتى يكون الكتف إلى جانب الكتف. كذلك تشاهدون في موسم الحج حول الكعبة رغم أنّ الموضوع يأخذ شكلاً دائرياً، يوجد مئات الآلاف يقفون وينتظمون ويصطفون، في منظر مدهش في التنظيم والهندسة والجمال، هذا من عمل الإسلام.

* لا بد للناس من أمير
لقد أكد الإسلام أنّ أي شعب أو مجتمع أو جماعة بشرية، تعيش في مكانٍ ما وفي ظروف مشتركة ومعينة لا بدّ لها من نظام وحكومة. في أدبيات الزمان الماضي في صدر الإسلام كانوا يقولون لا بد من إمارة، كما عن الإمام علي عليه السلام: "لا بدّ للناس من أميرٍ برٍّ أو فاجر"(2). وعندما يقول الحديث الشريف ما معناه: "لا بدّ للناس من حكومة أمير برٍّ أو فاجر"، فإنّه لم يعط شرعيَّة لحكومة الفاجر بل وصَّف الحاجة الطبيعية للجماعة البشرية بين الفوضى والنظام. يعني جاء الإسلام أولاً وتكلّم بالمبدأ، مبدأ الحاجة إلى نظام والى حكومة والى قانون.

* حكومة الدولة الإسلامية:

وكذلك بعد ما ثبَّت الإسلام المبدأ جاء ليقول إنّ النظام، أو القانون أو الشريعة التي تستطيع أن تحقِّق الآمال والأهداف التي يريدها الله للناس، إنَّما هي شريعة الحكومة أو الدولة التي تحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى. وهذا طبعاً حصل في التاريخ. رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة المنورة أقام دولة إسلامية، ثمَّ اتّسعت إلى مكة وإلى شبه الجزيرة العربية. حكومة هذه الدولة الإسلامية كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله حكم بدولة القانون، القانون الحقيقي، وليس بما ينسجم مع هواه أو مشاعره أو مع عواطفه كما في أيامنا هذه، بحيث يلعبون بالقانون ويبدّلون فيه على هواهم وأمزجتهم. أما القانون الإلهي هذا فهو وحيٌ يوحى لا ينطق عن الهوى، والنبي هو المعني بتطبيق هذا القانون. ثم يأتي البحث الأساسي ليناقش احتمالات أنه إذا كنّا في بلد ويمكن أن نقيم فيه دولة إسلامية، أو أقمنا فيه دولة إسلامية فلا مشكلة، فهي دولة شرعية والناس يتعاونون معها ويلتزمون أنظمتها وقوانينها وأحكامها وإجراءاتها، إلى آخره....

* في ظلّ دولة غير إسلامية
لكن المسألة أنه في مثل الزمن الذي نحن فيه، المسلمون يعيشون في بلدان مختلفة من العالم، أي في بلد مختلط فيه مسلمون ومسيحيون أو أتباع ديانات مختلفة حيث لا يكون من المتاح فيه إقامة دولة إسلامية، وبالتالي تقوم فيه دولة غير إسلامية فكيف يتصرفون؟ فالحكومة موجودة والأنظمة والقوانين موجودة وهذه الدولة غير إسلامية، لكن على المستوى القانوني هي تحكم بما تراه مناسباً، وهذه القوانين التي تضعها أحياناً قد تكون متطابقة مع الأحكام الإسلامية وأحياناً قد لا تكون متطابقة، وقد تكون متعارضة مع الأحكام الإسلامية. في هذا العصر هذا الابتلاء موجود.

* التعاطي مع القوانين
الإسلام قدّم رؤية واقعية متقدمة جداً. الإسلام يرى أن الهدف والهمّ الحقيقي هو الناس، فالناس في أيّ مجتمع يلزمهم حكومة ونظام لأجل مصالحهم، لأجل أمنهم واستقرارهم، وأيضاً لأجل تطورهم، وحتى يتمكنوا من حلِّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية. الإسلام لا يريد أن يتنازعوا، بل أن ينظّموا حياتهم بشكل أو بآخر. إذا توفَّر هذا في دولة إسلامية فهذا جيد، لكن إذا لم تكن هناك دولة إسلامية، وهناك قوانين لدى هذه الدولة غير الإسلامية، قوانين ترعى مصالح الناس، تنظِّم الشؤون الحياتية للناس، تؤمّن هذا الهدف بشكل أو بآخر، هنا لا يأتي الإسلام ويقول لأنَّ هذه القوانين صادرة عن دولة غير إسلامية فهذه قوانين غير محترمة ولا يجب مراعاتها، اذهبوا واعملوا الذي تريدونه، أي الفوضى، هذا أصبح خلاف الهدف. جاء الإسلام وقدّم، بحسب اجتهاد فقهائنا ومراجعنا الكبار، قدّم فهماً، يتحدَّث عن شيء اسمه حفظ النظام العام، حفظ المصالح العامة للناس وللمجتمع، عدم جواز الإخلال بالحياة العامة والنظام العام والقوانين العامَّة التي ترعى شؤون الناس وحياتهم ومصالحهم. حتّى لو كان ذلك في ظل دولة غير إسلامية.


1- نهج البلاغة – خطب الإمام علي عليه السلام، ج3، ص76.
2- نهج البلاغة – خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص91.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع