الشيخ مهدي الفتلاوي
هناك مفهوم سلبي للانتظار، وآخر ايجابي:
(الأول)، يحاول القائلون به التلاعب بأحكام الدين، فيعملون ببعضها ويجمدون
العمل بالبعض الآخر منهاه إلى وقت ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف لأنهم
يعتقدون بسقوط التكاليف السياسية والجهادية عنهم في مراحل الغيبة والانتظار،
ويبررون ذلك بأنه من الصعوبة مواجهة تيارات الفساد المتعددة، وأسباب الظلم والجور
المختلفة في إطار عملية الإصلاح والتغيير الاجتماعي، تلك المهمة الكبيرة التي لا
يمكن القيام بها إلا الإمام المعصوم، فما علينا إلا أن ننتظره والاقتصار على ممارسة
تكاليفنا العبادية فقط.
(الثاني)، المفهوم
الايجابي والشرعي للانتظار، ويتعبد أصحاب هذا المفهوم بالنص الشرعي للدين، غير
متنازلين عن أي حكم منه في جميع مراحل الغيبة والانتظار، فيدعون إلى التمسك بجميع
واجبات وتكاليف الشريعة سواء كانت عبادية أو سياسية أو جهادية أو غيرها...
وقد وردت عن أهل البيت عليه السلام عشرات الأحاديث المؤيدة لهذا المفهوم
الشرعي للانتظار، منها رواية الإمام الصادق عليه السلام التي جاء فيها: "إن
لصاحب هذا الأمر غيبة فليتق اللّه عبد وليتمسك بدينه" النعماني ص 112، الطوسي ص
275.
فالدين المدعوون للتمسك به في هذه الرواية حال الغيبة والانتظار شامل لجميع تكاليف
الإسلام سواء كانت فردية أو اجتماعية عبادية أو سياسية، أخلاقية أو جهادية..
ومن هذا المنطلق، يجب أن نفهم جميع النصوص المروية عن أهل البيت عليه السلام في موضوع الانتظار كقولهم (عليهم السلام):
"من مات على هذا الأمر منتظراً
كان كمن هو في فسطاط القائم" النعماني ص 144.
والمراد بالفسطاط الخيمة وهي كناية عن بيت الإمام ومنزله، ولكن من غير المتصور
إطلاقاً أن ينال أحد شرف هذه الموتة والمنزلة العظيمة لنهايته المرضية عند المهدي
المنتظر عليه السلام وهو مع ذلك متحلل عن بعض تكاليف الإسلام، يمارس بعضها
دون البعض الآخر، وهذا القرآن الكريم صريح في ذم هذا الصنف من المسلمين واعتبار
نهايتهم الدنيوية على هذا الحال من أسوأ العواقب في قوله تعالى: ثُمَّ
﴿أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم
مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن
يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُون﴾.
ومن الظريف أنني كنت
أناقش أحدهم في هذه الآية فقال: نحن لا ننكر التكاليف الشرعية الواردة في الكتاب،
وإنما نؤمن بها جميعها ولكن نرى تطبيق بعضها لا يكون واجباً علينا إلا بعد ظهور
الإمام المهدي عليه السلام.
فقلت له: كلامك في غاية الصحة ومنتهى الصواب إذا كانت الآية الكريمة السابقة تعني
الإيمان المجرد بالتكاليف والأحكام القرآنية دون العمل بها وتطبيقها، ولكن إذا
تأملت في آخر الآية التي تقول:
﴿وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ وأيضاً إذا تمعنت في
الآية التي بعدها، علمت أن النص القرآني صريح في إرادة العمل بالتكاليف الإلهية لا
الإيمان بها فقط.
وعلى هذا الأساس، كيف لنا أن نتصور مباركة الإمام المهدي عليه السلام لموت
هذا الصنف من الناس، وكيف يحضر تشييع جنائزهم وهم بنظره أموات في حياتهم لأنهم
أماتوا الدين الذي جاء ليحييهم حياة طيبة مباركة.
ومن الروايات المؤكدة صحة
المفهوم الايجابي للانتظار ما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله
تعالى:
﴿اصبروا وصابروا ورابطوا﴾ قال عليه السلام: "اصبروا على أداء الفرائض،
وصابروا عدوكم، ورابطوا إمامكم"، النعماني ص 144.
فالانتظار المطلوب في حركة الأمة وممارسات الجماعة المنتظرة تعني برأي الإمام
الباقر عليه السلام ضرورة توافر صفات ثلاث في حياة وسلوك المنتظرين.
(الصفة الأولى): الصبر على أداء الفرائض في عصور التحلل والانحراف، فلا
ينزلق المسلم في أجواء الانحراف المتعددة والمختلفة والتي تصبح أشد فتنة عندما يسود
الفساد والضلال وتمتلئ الأرض ظلماً وجوراً.
ويلاحظ أن الإمام الباقر عليه السلام دعا إلى الصبر على أداء الفرائض كلها
من دون أن يستثني فريضة أو تكليفاً معيناً منها، ومن دون أن يجعل مفهوم الانتظار
مسوغاً للتنازل عن التكاليف السياسية والجهادية وإسقاطها في ممارساتنا اليومية
وتأجيل العمل بها إلى ظهور الإمام المهدي المنتظر عليه السلام كما يدعي
دعاة الانتظار السلبي.
(الصفة الثانية): المصابرة والمثابرة في الخط الجهادي لمواجهة أعداء الإسلام والأمة، وهو ما يحتّم علينا استخدام أفضل الأساليب دقة وتطوراً، وأكثرها حيطةً وحذراً في مواجهة أعدائنا سواء على الصعيد السياسي، الجهادي والأمني أو حتى على المستوى الثقافي والتبليغي، كل ذلك من أجل أن ينجح المنتظرون للمهدي عجل الله فرجه الشريف في إفشال مخططات أعدائهم، ويحققوا المفهوم الصحيح للانتظار وتقع في هذا السياق النصوص القرآنية الخاصة بإعداد القوة وإرهاب العدو، وكذلك روايات التقية والمداراة وأحاديث نظم الأمور في إطار الحيطة والحذر من الأعداء والمنافقين.
وإنما نص الإمام الباقر عليه السلام على منهج المصابرة في الخط الجهادي، مع أنه من جملة التكاليف التي ذكرها بشكل عام في الصفة الأولى للمنتظرين. لأن العمل الجهادي له خصائصه وأهميته ومميزاته في مراحل الغيبة والانتظار. لأنه وحده القادر على ترشيح الجماعات المنتظرة وتأهيلهم وجهوزيتهم ليكونوا من أصحاب المهدي المنتظر عليه السلام ومن أنصاره، وهو أخيراً وحده الذي يجعلهم أكثر استعداداً لنصرته وحماية أهدافه في دولته.
(الصفة الثالثة):
المرابطة على الإيمان بإمامة الإمام المهدي عليه السلام والثبات في التمسك
بقيادته وولايته.
وهذه الصفة من الخطورة بمكان إلى درجة نصت عليها بمفردها أكثر من مائة رواية عن أهل
البيت عليه السلام مما يدل أن الأمة ستمر بعواصف عقائدية واختلافات مذهبية
وفكرية عميقة الأغوار وشديدة التأثير على حياتها الإيمانية والعقائدية، بحيث تكون
سبباً لتراجع عدد كبير من المسلمين عن الإيمان بإمامة المهدي المنتظر وبقيادته
الإلهية.
وهذا ما تستشعره بوضوح وصراحة من الروايات التالية:
- ففي رواية حماد قال: ذكر القائم عند أبي عبد اللّه عليه السلام فقال:
"أما أنه لو قام لقال الناس أنى يكون هذا وقد بليت عظامه من كذا وكذا"... النعماني
ص 101.
- وفي رواية المفضل قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ما علامة القائم
قال: "إذا استدار الفلك فقيل مات أو هلك في أي واد سلك، قلت: جعلت فداك ثم يكون
ماذا قال: لا يظهر إلا بالسيف". النعماني ص 104.
- وفي رواية عبد الكريم قال ذكر عند أبي عبد اللّه عليه السلام القائم
فقال: "أنى يكون ذلك ولم يستدر الفلك، حتى يقال مات أو هلك في أي واد سلك" فقلت
ما استدارة الفلك فقال: اختلاف الشيعة بينهم". النعماني ص 104.
وفي رواية تشير إلى ارتداد بعض الشيعة عن القول بإمامة المهدي عليه السلام
ودخول بعض الناس في الاعتقاد بولايته ممن كانوا يعتقدون بإمامته..
ولهذا تواتر الروايات عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة على ضرورة
المرابطة في خط التمسك بولايته وإمامته قبل ظهوره، فقد روى ابن وهب عن أبي عبد
اللّه الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه عليه السلام قال:
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتد
به قبل قيامه، يتولى وليه ويتبرأ من عدوه، ويتولى الأئمة الهادية من قبله. أولئك
لفقائي وذوو ودي ومودتي، وأكرم أمتي علي "وفي رواية رفاعة أكرم خلق اللّه عليّ". (الطوسي
ص 275).
هذه هي أهم الصفات المشار إليها في الروايات التي تحدثت عن المفهوم الايجابي
للمنتظرين، فإذا توافرت مجتمعة بشكل كامل في حياة وممارسات الجماعة المنتظرة
لقائدها المرتقب تصبح حينئذٍ مؤهلة لاستقباله والتشرف بنصرته والقتال بين يديه
وحماية أهداف ثورته.
* خطأ متعارف:
هناك خطأ شائع ينطلق من الاعتقاد بأن الأمة هي التي تنتظر الإمام المهدي عليه
السلام أما هو فموقفه سلبي من الأمة والانتظار باعتباره القائد المنتظر.
ولكن عندما نتأمل في روايات الانتظار يظهر لنا وبصورة واضحة خطأ ههذ الفكرة الشائعة،
لأن الإمام المهدي عليه السلام من غير المتصور إطلاقاً أن يعلن للملأ
ظهوره ليمارس دوره السياسي والتاريخي والحضاري الكبير كمنقذ للبشرية ما لم تتحقق له
شروط معينة ينتظر تنجزها في الواقع الاجتماعي المعاصر لثورته، فإذا تحققت هذه
الشروط يعلم حينئذٍ أنه قد أذن له اللّه تعالى بالظهور لإعلان ثورته والقيام بمهمته
العالمية المرتقبة.
ليس الأمة فقط هي التي
تنتظر الإمام، بل الإمام عجل الله فرجه الشريف ينتظر توافر الشروط والظروف الملائمة
لإعلان ثورته وظهوره المقدس أيضاً
فالإمام إذا هو كذلك ينتظر توافر تلك الشروط والظروف الملائمة لاعلان ثورته كما نحن
ننتظر ونترقب بفارغ الصبر يوم ظهوره المقدس.
فما هي يا ترى هذه الشروط التي ينتظر تحققها الإمام المنتظر "بكسر الظاد" لتكون
دليلاً قاطعاً على نجاح ثورته ووجوب ظهوره للقيام بمهمته؟.
ذكرت الروايات شروطاً
عديدة خاصة بالإمام وأهمها شرطان:
(الشرط الأول): أن يتكامل عدد وزرائه وهم الأمة المعدودة المشار إليهم في قوله
تعالى: ﴿وَلَئِنْ
أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا
يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم
مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾َ
(هود: 8).
قال الإمام الصادق عليه السلام، في تفسير هذه الآية:
﴿العذاب هو القائم﴾
هو عذاب على أعدائه، والأمة المعدودة هم: الذين يقومون معه، عدد أهل بدر.. تأويل
الآيات الظاهرة ص 115.
وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام وهو يفسر قوله تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ
مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِير﴾ٌ
أنه قال: "يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً وهم واللّه الأمة
المعدودة، يجتمعون في ساعة واحدة، قزع كقزع الخريف". روضة الكافي ج 8 ص 414.
وهؤلاء هم المتسابقون لعمل الخيرات الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والمتنافسون في سوح الجهاد والشهادة في تاريخ الغيبة والانتظار وهم الملتزمون بتكاليف الشريعة كاملة من دون إبطال لحكم منها أو تعطيل لبعضها تجسيداً للمفهوم الشرعي الصحيح للانتظار لأنهم آمنوا باللّه تعالى إيماناً صادقاً، وعملوا بكتاب اللّه وسنة نبيه واقتدوا بالصالحين الصادقين من أوليائه، فلم يتركوا عملاً صالحاً إلا وتسابقوا إليه، ولم يعطلوا تكليفاً واحداً من تكاليف الإسلام وبذلك أصبحوا أهلاً لصحبة الإمام المهدي عليه السلام ووزرائه في قيادة دولته العالمية.
(الشرط الثاني): أن
يتكامل عدد جيشه وهم أنصاره في العالم، وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل وأشار إليهم
الإمام الصادق عليه السلام حينما سأله رجل من أهل الكوفة قائلاً: "يا أبا
عبد اللّه كم يخرج مع القائم عليه السلام فأنهم يقولون أنه يخرج مثل عدة
أهل بدر ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً؟ فقال عليه السلام: "ما يخرج إلا في
أولي قوة وما يكون أولو القوة أقل من عشرة آلاف رجل".
والرواية المعتبرة أن عدد جيشه في بداية انطلاقته من ثورته بالحجاز اثنا عشر ألفاً.
وهذان الشرطان دليل قاطع على عدم تكامل شروط الانتظار الايجابية المؤدية إلى ظهور الإمام المهدي عليه السلام إلا في إطار مجتمع إسلامي صالح وفي جو اجتماعي حافل بالتجارب السياسية والجهادية والإيمانية في المواجهة لأعداء الإسلام مما يساهم بشكل فعّال في تهيئة المناخ التربوي الملائم روحياً وعسكرياً وفكرياً لإعداد أصحاب الإمام وتربية جيشه وأنصاره، خلافاً لما يعتقده البعض من أن جو الفساد والانحراف هو الذي يساعد على تربيتهم وإعدادهم.
ويستفاد من بعض الروايات
أن للإمام دوراً ايجابياً فعالاً في عملية انتظار تحقق هذه الشروط، وفي مباركتها
وتنميتها ورعايتها والاتصال بأهم رموزها القيادية بشكل مباشر سواء عرفوا به أو لم
يعرفوه.
وهكذا يتضح أن الشروط التي ينتظر الإمام تحققها هي الأخرى تؤكد لنا صحة المفهوم
الايجابي للانتظار، حيث التفعيل الكامل لعملية الالتزام الأصولي بالإسلام عقيدة
وشريعة في حياة أصحاب المهدي وجنوده المنتظرين لظهوره، وهذا ما يتجلى أيضاً في شروط
الانتظار بالنسبة للأمة، التي نص عليها الإمام
الباقر عليه السلام في حديث المرابطة والمصابرة، لأنها تعكس أعلى درجات
الجهوزية والتأهب والاستعداد الكامل في حياة الجنود المنتظرين للقتال بين يدي
قائدهم المنتظر وهو أمر غير متصور إطلاقاً ما لم يخوضوا مسبقاً دورات تدريبية على
صعيد بناء الذات في طريق السير والسلوك إلى اللّه تعالى وعلى صعيد بناء العضلات في
المعارك الجهادية والتجارب السياسية والأمنية التي يخوضونها مع أعداء الأمة قبل
ظهور قائدهم المنتظر لينالوا شرف القتال بين يديه بعد أن نجحوا في تجربة الاستعداد
والجهوزية الروحية والقتالية قبل ظهوره.