ع.ن
قال اللّه تعالى:
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
نحن نعلم أن التفكر يعد أحد الشروط الأساسية للاستفادة من القرآن الكريم، وندرك
عظمة هذا الشرط الذي جُعل مجرد احتمال حدوثه "ولعلهم يتفكرون" سبباً لنزول القرآن،
وأن هذا الاحتمال يحكي عن عظمة مخفية لا ندركها بسهولة لأننا اعتدنا على نوع محدد
أو نمط متدنٍ من التفكُّر. فاللّه سبحانه بعد أن علم نبيه جميع أساليب الوعظ
والإرشاد ختم له ذلك بقوله:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا
نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.
فكان التفكر أبلغ موعظة حيث فاق جميع أنواع المواعظ. فإذاً، نحن ندرك هذه الأهمية،
ولو بشكل إجمالي. ولكننا أحياناً نقف عاجزين عن استخدامه والقيام به. فإذا أراد
أحدنا ساعة لنفسه لكي يتفكر، فبماذا يفكر وكيف. وإذا حاول ذلك وجد أن آلاف الأفكار
والمسائل تطرأ على ذهنه، كل واحدة تشده إلى جهة وتعصف به من كل جانب ثم تتركه حائراً
ضالاً.
وهنا لا بد من الالتفات إلى المسائل التالية:
1- إن مجرد التفكر في أي شيء ليس هو المطلوب. فكل إنسان لا ينفك عن التفكير في
ساعات يومه ولياليه. بل هو التفكر في آلاء اللّه ونعمه، وفي المصير والأحكام
وأمثالها.
2- التفكر في الشيء ينبع من الاهتمام به، فإذا كان اهتمام المرء وهمته متوجهة نحو
الدنيا ومقتضياتها، فسوف يكون الذهن منشغلاً بها. وإذا كان هذا الاهتمام فائقاً،
فسوف يتغلب على أي تفكر آخر. من هنا يُعلم أن بناء حاله من التفكر المطلوب يحتاج
إلى قطع العلاقة بالدنيا، أو على أقل تقدير تخفيف هذا التعلق شيئاً فشيئاً.
4- ولا يكفي هذا القطع، بل يحتاج المتفكر إلى ذخيرة خاصة للتفكر. وهنا يقدم القرآن
أفضل ذخيرة لما يتضمنه من حقائق ذات مراتب لا تحصى. وهو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن
أن ينضب معينه من الحقائق لأنه جامع مراتب الوجود المطلق ومظهر أسماء اللّه وصفاته.
4- ولكن التفكير أحياناً قد يوصل إلى نتائج غير صحيحة، لأن إبليس يدخل في مجاري
وقنوات التفكير، ويشارك الإنسان في ذهنه كما يشاركه في أمواله والبنين. ولهذا ينبغي
الاستعاذة باللّه تعالى من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن، قال اللّه تعالى:
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ﴾.
وفي الحديث عن الإمام
الصادق عليه السلام قال:
"إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره،
فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور".
يقول الإمام الخميني قدس سره: ومقصوده عليه السلام أنه كما أن الإنسان لا بد له
من النور الظاهري عند المشي في الظلام حتى يصان من خطر السقوط في المزلات، كذلك لا
بد له أن يمشي في ظلمات طريق السير إلى الآخرة وإلى اللّه بالقرآن، الذي هو نور
الهداية والمصباح المنير في طريق العرفان والإيمان كي لا يقع في المزلات المهلكة. (الآداب-
ص 459).
وفي حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
"الفقيه من لا يترك القرآن رغبة عنه ويتوجه إلى غيره. ألا لا خير في علم ليس فيه
تفهّم، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ولا خير في عبادة ليس فيها تفقه".
* البرنامج العملي للتدبر في القرآن:
1- واظب على قراءة القرآن يومياً، واختر للقراءة أفضل الأوقات.
2- ضع تفسيراً ميسراً إلى جانبك للتعرف إلى معاني المفردات القرآنية الصعبة.
4- إذا أصابك هم أو غم أو حزن إقرأ القرآن وابحث عن شفاء لهمّك أو حزنك فيه. تأكد
وثِق تماماً بوجود الشفاء.
4- اقرأ واختر بعض الآيات الصعبة أو التي تجد فيها بعض المسائل الغامضة بالنسبة
إليك ثم ابحث عن تفسيرها في أحد التفاسير المهمة (تفسير الميزان مثلاً).
5- استمع إلى القرآن دائماً وشارك في جلسات القراءة.
6- شارك مع مجموعة من الأخوة الذين تنسجم معهم في التفكير والمستوى الثقافي في
جلسات التدبُّر. حيث يتم اختيار سورة قرآنية ويتم التحضير لها مسبقاً ثم يبدأ
الجميع بطرح مختلف الأسئلة حول الآيات الموجودة. فمثلاً إذا وصلتم إلى الآية:
﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ
اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾
نتساءل حول هذا الجدال ولماذا يستنكره النبي هنا، وكيف تشارك الأبناء والآباء في
التسمية، وكيف يتم الجدال في الأسماء وكيف ترتبط هذه الآية بواقعنا، وهل نحن مبتلون
بهذا المرض و...
7- ادع اللّه تعالى أن يرزقك حقيقة التفكر. واللّه المستعان على كل شيء.