مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من القلب إلى كل القلوب: أداء التكليف: مسؤوليات وأدوار (*)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)



بعد أن بيّنّا في العدد السابق ثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتزامه صلى الله عليه وآله وسلم في المرحلة المكّيّة بالتكليف الإلهيّ حتّى في أصعب الظروف وأقساها، سنعرّج على المرحلة المدنيّة لنرى كيف التزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتكليفه في تلك الظروف المستجدّة، وكيف تغيّر تكليفه تبعاً لها.


* النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة

في بداية المرحلة المدنيّة، لم يذهب صلى الله عليه وآله وسلم إلى المواجهة المسلّحة؛ إذ لم يكن مكلَّفاً بذلك بعد، بل بدأ ببناء المسجد، والتحدّث إلى الناس، وتنظيم العلاقات، وحلّ الخلافات القائمة بين الأوس والخزرج، وتنظيم العلاقة مع اليهود الموجودين في المدينة. لكن في الوقت نفسه، لم تترك قريش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، بل أكملت حربها عليه، ومنعته من إرسال أيّ مبعوث إلى أيّ قبيلة من القبائل؛ حيث اعتُقِل الكثير من مبعوثي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو حفظة القرآن الذين كان يرسلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى العشائر والقبائل، وقضَوا شهداء.

بعد أن حاصرت قريش النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حصاراً تامّاً، وحاربته في كلّ مكان، لم تعد الحركة باتجاه القبائل والعشائر والمناطق الأخرى في شبه الجزيرة العربية أمراً سهلاً؛ كما إنّ قريشاً استكملت تصفيتها لأصحابه صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته الذين بقَوا في مكّة، وطردتهم، وصادرت أموالهم.

فإذاً، استُكملت الحرب إلى النهاية في مكّة، وفي شبه الجزيرة العربية حصارٌ عامٌّ وحربٌ شعواء، إعلاميّاً، وسياسيّاً، واجتماعيّاً، وثقافيّاً وأمنيّاً... إلى أن أصبحت الأوضاع لا مفرّ معها من المواجهة المسلّحة، نزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ...﴾ (الحج: 39-40).

* بدر: أُولى المعارك
ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المواجهة المسلّحة، فكانت معركة بدر هي المعركة الأولى، تبعتها معركة أُحُد وغيرها...، ومن ثمّ وصلت الأمور إلى صلح الحديبية، الذي أسّس لمرحلة جديدة.

* القتال وسيلة لا هدف

ينبغي أن نلتفت كثيراً إلى أنّ القتال ليس هدفاً، بل وسيلة وخيار وطريق لتحقيق الهدف والوصول إلى مكان محدّد، وغاية محدّدة، ولا يجوز أن تتحوّل الوسائل إلى أهداف.

لقد ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيار المواجهة المسلّحة؛ لأنّ أعداء الإسلام منعوا صوته من الوصول إلى كلّ الناس. أمّا صلح الحديبية فقد سمح لصوته صلى الله عليه وآله وسلم بالوصول إلى كلّ الناس، والحصول على مجموعة امتيازات، فُتحت الأبواب أمام الدعوة الإسلامية النبويّة، وأمام التواصل وكسر الحصار... فوافق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على عقده، غير أنّ بعضَ من كان معه لم يوافق ولم يستوعب الموقف، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى التشكيك في نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هو نبيّ أم قائد سياسيّ كبقيّة القادة السياسيّين؟!

* نصر الله والفتح
بعد سنوات قليلة، ارتكبت قريش خطيئة بنقضها الصلح، فنتج عن ذلك فتح مكّة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً. وحينما اقتربت حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من نهايتها، أكمل الله سبحانه وتعالى هذا الدين، وأتمّ هذه النعمة؛ بما أمر نبيّه بتبليغه يوم الغدير. وبعد ذلك، توفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من هذه الدنيا، وقد بلَّغ الرسالة الخالدة، وثبَّت قواعدها وأصولها ومبانيها، ووضع كلّ الضمانات لبقاء هذا الدين إلى قيام الساعة. وانتصر بذلك المشروع النبويّ بعد أن أدَّى صلى الله عليه وآله وسلم تكليفه كاملاً.

* التكليف مدارُ العمل
تارةً، ننسب التكليف إلى الهدف، أو الضوابط، أو الظروف، مع امتلاكنا المواصفات الشخصيّة لأداء هذا التكليف، وتارةً ننسب الموقف الذي نقوم به ونتّخذه إلى المواصفات الشخصيّة للمكلّف.

مثلاً، في المرحلة المدنيّة، نتحدّث عن حزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشجاعته وبطولاته وإقدامه، حتّى إنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان يقول: "إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(1)، وهنا نسأل: هل كان النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شجاعاً في المرحلة المدنية، ولم يكن شجاعاً في المرحلة المكيّة -والعياذ بالله-؟ أو هل كان النبيّ محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم أبيَّ الضيم في المرحلة المدنيّة، يرفض الذلّ والهوان والشتائم والإهانات والظلم والطغيان والاستبداد، أمّا في مكّة لم يكن أبيَّ الضيم وثائراً؟ هل كان محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة عاشقاً للقاء الله، راغباً في الشهادة، مقبلاً عليها، ولم يكن كذلك في مكّة والعياذ بالله؟ إذاً، فالموضوع ليس له علاقة بالمواصفات الشخصيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا -مثلاً- لو كان أمر الله سبحانه أن يا محمّد هذه هي الدعوة الإلهيّة، ستنزل الآن من غار حِراء، وتذهب إلى المسجد الحرام، وتنادي بالناس، فتجتمع عليك قريش بكلّ عشائرها وقبائلها، فتقف وتدعوهم مباشرة إلى عبادة الإله الواحد الأحد، وتتّخذ موقفاً حاسماً من هُبل واللّات والعزّى، ومن عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، حتّى ولو ذبحوك وقطّعوك. ففي تلك اللحظة، لو كان تكليفُ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك لفعله، وهل يناقش أحدٌ في ذلك؟ لقد كان يملك أعلى مستوى من الالتزام، والعبودية، والطاعة، والشجاعة، وإباء الضيم، والحرص، والحكمة والمسؤولية، وعشق الشهادة، وحبّ لقاء الله سبحانه وتعالى.

* النبيّ هو النبيّ
إذاً، فالأدوار والأعمال والمسؤوليّات ليست مرتبطة هنا بالمواصفات الشخصيّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلا يصحّ أن نقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن شجاعاً في مكّة فصار شجاعاً في المدينة، ولم يكن أبيّاً للضيم فصار أبيّاً للضيم، ولم يكن يرفض الذلّ والإهانة والشتم من أجل الإسلام، ومن أجل الدعوة، فأصبح بعد ذلك يرفضها؛ كلّا، النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة هو ذاته النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، لكنّ اختلاف تكليفه الإلهيّ الشرعيّ أفرز اختلافاً في المواقف والأدوار والمسؤوليّات.

* التكليف: الأصل الحاكم
هنا، نستخلص ممّا تقدّم نتيجتين:
الأولى: إنّ الأصل الحاكم في عمل الأنبياء عليهم السلام وعمل الأئمّة المعصومين عليهم السلام وأولياء الله تعالى، والذي يجب أيضاً أن يكون حاكماً على عمل الناس وحياتهم، هو أداء التكليف الإلهيّ، وليس الميول.

الثانية: إنّه لا وجودَ لشيء اسمه "مطلق"؛ فمواجهة الظلم -مثلاً- ليست تكليفاً بالمطلق، في كلّ زمان وفي كلّ مكان، بمعزل عن الظروف، وبمعزل عن الإمكانات، وبمعزل عن الهدف، وكذلك لا وجود لشيء اسمه "القيام بالسيف" في كلّ حال وفي كلّ ظرف. هذا المطلق هو أمر غير صحيح، ولو كان كذلك لقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف في مكّة.

في المقابل أيضاً، لا وجودَ لشيء اسمه "الصبر مطلقاً"؛ إذ لا إفراط ولا تفريط؛ فلا وجود لشيء اسمه الصبر على الإهانة، والتخوين، والاتّهام، والظلم، والفساد، والذهاب دائماً للعمل بمراحل. كلّا، بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك في المدينة؛ فبعض الذين مارسوا مستوى من الشتائم هُتكوا في مجتمع المدينة؛ لأنّ الوضع لم يكن كما كان في مكّة، وما تحمّله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يعد تكليفه في المدينة؛ فالظروف والإمكانات وخدمة الهدف في المدينة اختلفت عمّا كانت في مكّة، ليس لتبدّلٍ أو اختلافٍ في شخصيّته صلى الله عليه وآله وسلم، بل لأنّ التكليف في المدينة اختلف عن التكليف في مكّة؛ إذاً، لا يوجد شيء اسمه "بالمطلق" في هذا النوع من القضايا.


(*) من خطاب سماحته (حفظه الله) ليلة الأول من شهر محرّم 1439هـ/ 21 أيلول 2017م.
1.الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، السيد جعفر مرتضى، ج14، ص165.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع