نسرين إدريس قازان
اسم الأم: ديبة شمص.
محل الولادة وتاريخها: شعث 6/2/1973م.
رقم القيد: 58.
الوضع الاجتماعي: متأهل وله 3 أولاد.
مكان الاستشهاد وتاريخه: القصير 19/05/2013م.
لا يزال صوته الشجيّ يتسرّب من النوافذ إلى القلوب، يهزُّ
أفنانها بكلمات الدعاء وأبيات العزاء: "كلام الناس يجرحني كلام الناس.. تقول حسين
ما يرجع ولا عبّاس". هذا أكثر ما كان يردّده في أيّامه الأخيرة، وصدى لطم يده على
صدره باكياً، يتردّد مع كلّ خفقة، فـ"الحاج علي" كما أحبَّ أن يناديه الجميع عندما
كان طفلاً، كان صاحبَ دمعةٍ سخيّة حين يغلبه الشوق -وقلّما انتصر على شوقه- فيمر
بحالٍ من الهيام والضياع وهو يتحدّث في خلواته إلى الله مناجياً الوصال، فلا ينتبه
إنْ لاحظه أحد أو سُمع صوت نشيجه، فسفر روحه إلى الملكوت الأعلى يتركه جسداً يذوي
في عتمة يزيحها الفجر بتشقّقاته عن تهجّد عاشق أوجعه الانتظار.
* أهل البيت عليهم السلام الحبّ والقدوة
بلى؛ إنّها حياة المشتاق دوماً والمُتحيّر كيف اللقاء!! "الحاج عليّ" الذي تشّرب
حبّ أهل البيت عليهم السلام منذ صغره، حيث تبحّر في علوم النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم والأئمة عليهم السلام، حفظ الأحاديث وعمل بها، وكانت مقياس كلّ تصرّف من
تصرّفاته.
حين نشبت الحرب الأهليّة في لبنان، خاف والد "عليّ" عليه وعلى إخوته، فأوفدهم من
"حي السلم" حيث منزلهم إلى قريتهم شَعث. وأوّل ما علّم أولاده هناك الصلاة في
المسجد، وأنّ الصلاة عمود الدين، والمسجد متراس المؤمنين.
* انبلاج فجر المقاومة
لم يعتبر "الحاج علي" الدين طقوساً تقليديّة، فقد كَبُرَ وهو يرى انبلاج فجر مقاومة
عظيمة لم تقتصر على مواجهة العدوّ الإسرائيلي فقط، بل الأهمّ أنّها قاومت المفاهيم
والأحكام المغلوطة التي انتشرت في المجتمع وأعادت الدّين إلى أصالته، كلّ ذلك أزاح
عنه ملامح الخوف من الحرب والتهديد المستمر، وثبّت علاقة وطيدة مع المعرفة والتبحّر
في شؤون الدين. لقد رأى "الحاج علي" شبّاناً في مقتبل العمر تجرّعوا الغربة لأجل أن
تُرسى دعائم هذا المجتمع، فتماهى مع هذا المشهد ليصير جزءاً منه، بسريّة وكتمان،
خصوصاً عن والده الذي كان يخاف عليهم كثيراً، ولكنّه مع الأيام، وشيئاً فشيئاً، وجد
نفسه بين أبناءٍ مقاومين أشداءَ اختار جميعهم خط المقاومة.
فتىً مرتّب ومنظّم ونظيف، هكذا عُرف في صغره، فلم تُلفت أمّه نظره يوماً إلى أيّ
أمر من تلك الأمور وكان هذا التميّز فحوى حديثها الدائم مع والده، خصوصاً وأنّ
الوعي وإدراك الأمور قد برزا عنده مع تديّن لافت، وإدراك للهدف من وجود الإنسان في
هذه الحياة، فكان كلّ ما يقوم به يجب أن يوافق الهدف.
* خدمة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
إحياء شعائر أهل البيت عليهم السلام، التزامُ التكليف، الإيثار والتضحية والشجاعة،
هي الحياة التي بناها "الحاج عليّ"، حتى عندما أراد أن يتزوّج، اختار ابنة شهيد
مقاوم، واتّفقا معاً أن يؤسّسا عائلة صالحة تكون تفاصيل أيّامها جهاداً في خدمة
صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعندما رزقا بطفل أخبر زوجته أنّ
هذا الولد "أمانة غالية علينا تربيتها وتهذيبها ريثما يحين موعد تسليمها لصاحبها
الحقيقي".
لا يهمُّ التعب المُلقى على كاهله، بل الأهم هو الجلوس إلى أولاده لمواكبة تربيتهم
وتغذيتهم بالمبادئ الإسلاميّة الصحيحة، أو القيام بزيارات صلة الرحم، أو تفقّد
الجيران. لم يعش يوماً لأجل نفسه، إلّا عندما يكون في المحاور وبين الرصاص، وفي تلك
اللحظة، كان يمنّي نفسه بأن يلتقي بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقد
يكون ذا حظٍّ عظيم فينال الشهادة.
* بعد حرب تموز 2006م
بعد انتهاء حرب تموز 2006م، جلس "الحاج علي" بالقرب من أخيه رضوان، يواسي أحدهما
الآخر، فالحرب مرّت ورجعا منها سالمين، وكثير من الأصحاب قد رحلوا.. وليتأقلما مع
حياتهما مجدّداً اعتبرا أنّ ما كُتب لهما من عُمر بعد الحرب إنّما هو فرصة جديدة
للجهاد.
على الرغم من أنّ "الحاج علي" امتهن مهنة صيانة الدراجات النارية ومهنة
"الألمينيوم"، اللتين كانتا تدرّان عليه الخير الوفير، إلّا أنّ الأولويّة كانت
دوماً لعمله الجهادي، وكثيرة هي الليالي التي غاب فيها عن المنزل بداعي هذا العمل،
وكثيرة هي الشهور التي كان فيها في معسكرات التدريب.
* عاش في كلّ يوم عاشوراء
هذا القوي ذو البأس أكثر ما تميّز به هو بكاؤه المستمر على مصائب أهل البيت عليهم
السلام، حتى كادت أيام السنة تتشابه مع أيام محرم، وأكثر ما كان يذكره ويدمي قلبه
هو سبي السيدة زينب عليها السلام. وربما لشدّة حزنه وبكائه عليها رزقه الله تعالى
بركة الجهاد ذوداً عنها والاستشهاد في حرم قدسها.
كان "الحاج عليّ" يعرف تماماً رقة قلب والديه، ولكنه لم يفتأ يذكّرهما بأنّ هذه
الدنيا دار ممرّ، وأنّ الحياة الحقيقيّة هي الحياة الآخرة، وأنّ كلّ سكنة من سكنات
حياتنا هي لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبذلك كان يُحضّرهما لخبر لا
مناص من تلقيه، ولكن "الحاج علي" لم يكن يعلم أن خبر استشهاده سيكون مقروناً بشهادة
أخيه، وأن الحزن الذي ضمّهما ذات يوم بعد حرب تموز، سيتفرع لقاءً في الآخرة يزهرُ
جنات النعيم.
* دفاعاً عن الإسلام المحمّدي الحسيني
قُبيل معركة القصير، كان بعض الناسِ لا يزالون يتحدّثون عن جدوى اندلاع الحرب، وكان
على عاتق المجاهدين مهمّتان؛ الأولى: توعية الناس إلى خطورة هذه الهجمة التكفيرية،
والثانية: بذل الغالي والنفيس دفاعاً عن الإسلام المحمدي – الحسيني – الزينبي
الأصيل.
وكانت معركة القصير حيث التقى الجمعان، وكان "الحاج علي" وإخوته في تلك المعركة
القاسية والشرسة، التي سطّر فيها مجاهدو المقاومة الإسلاميّة استبسالاً ملحميّاً،
حطّم أحلام التكفيريين وتلاشت مشاريعهم تحت أقدام المجاهدين.
* لا ينالها إلّا ذو حظّ عظيم
ودّع "الحاج عليّ" أهله وعائلته بهدوء وصمت.. وبعد نشوب المعركة، صار قلبُ "الحاج
قاسم" يتقلّب بين اضطراب وهدوء، فالأخبار تتوارد عن ولديه متغيرة متقلّبة، حتى
استقرّ القول بشهادة "رضوان"، أمّا "الحاج عليّ" الذي قاتل بشجاعة واندفاع، فلم يكن
خبر شهادته قد وصل لأهله بعد.
ففي اللحظة التي استشهد فيها "رضوان"، كان "الحاج علي" يرمي ناحية الأعداء، فقال له
أحد المجاهدين إنّ علامات الشهادة قد بانت على وجهه، ودعا الله أن يرزقه إيّاها،
فرد "الحاج علي" بثقة: "لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم".. وسرعان ما كتبه الله من
الشهداء.
في بيت "الحاج قاسم" تردّد صوت لطمية "كلام الناس يجرحني"، وتصدعت الروح؛ فلا
"رضوان" قد رجع ولا "الحاج عليّ"، وكانت معركة القصير هي المعركة الأولى في تاريخ
المقاومة الإسلامية التي يستشهد فيها أخوان في اليوم ذاته، فيُشيَّعان ويُدفنان
معاً، ويرسمان معاً أروع مشاهد العشق والإيثار.. مجاهدان لم يتعبا يوماً ولم ينل
اليأس من عزيمتهما، عقدا العزم منذ زمن على النصر والشهادة، وكان لهما النصر
والشهادة.