وهو من نتائج الجبن وضعف النفس، إذ كل جبان ضعيف النفس تذعن نفسه لكل فكر فاسد يدخل
في وهمه ويتبعه، وقد يترتّب عليه الخوف والغمْ وهو من المهلكات العظيمة، وقد قال
اللَّه سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
﴾ (سورة الحجرات، الآية 12)، وقال تعالى:
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ
﴾ (سورة فصلت، الآية 23).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً". ولا ريب في أن من حكم بظنّه على غيره بالشر، بعثه الشيطان على أن يغتابه أو يتوانى في تعظيمه وإكرامه، أو يقصر في ما يلزمه من القيام بحقوقه، أو ينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه وكل ذلك من المهلكات. على أن سوء الظن بالناس من لوازم خبث الباطن وقذارته، كما أن حسن الظن من علائم سلامة القلب وطهارته، فكل من يسيء الظن بالناس ويطلب عيوبهم وعثراتهم فهو خبيث النفس سقيم الفؤاد، وكل من يحسن الظن بهم ويستر عيوبهم فهو سليم الصدر طيّب الباطن،
فالمؤمن يظهر محاسن
أخيه، والمنافق يطلب مساوءه، وكل إناء يرشح بما فيه. قال تعالى:
﴿بَلْ
ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ
قَوْمًا بُورًا﴾ (سورة الفتح، الآية 12).
والسر في خباثة سوء الظن وتحريمه وصدوره عن خبث الضمير وإغواء الشيطان: أن أسرار
القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لأحد أن يعتقد في حق غيره سوءاً إلا إذا
انكشف له بعيانٍ لا يقبل التأويل، إذ حينئذ لا يمكنه ألاّ يعتقد ما شاهده وعلمه،
وأما ما لم يشاهده ولم يعلمه ولم يسمعه وإنما وقع في قلبه، فالشيطان ألقاه إليه،
فيبغي أن يكذبه، لأنه أفسق الفسقة، وقد قال اللَّه:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ﴾
.
فلا يجوز تصديق اللعين في نبأه، وإن حف بقرائن الفساد، ما احتمل التأويل والخلاف
فلو رأيت عالماً في بيت أمير ظالم لا تظنن أن الباعث طلب الحطام المحرمة، لاحتمال
كون الباعث إغاثة مظلوم. ولو وُجدت رائحة الخمر في فم مسلم فلا تجزمن بشرب الخمر
ووجوب الحد، إذ يمكن أنه تمضمض بالخمر ومجّه وما شربه، أو شربه إكراهاً وقهراً. فلا
يُستباح سوء الظن إلا بما يستباح به المال، وهو صريح المشاهدة، أو قيام بيّنة فاضلة.