الشيخ تامر محمد حمزة
كان أوّل من برز للقتال بين يدي الحسين عليه السلام، في
يوم العاشر من المحرّم، وحين أُثخن بالجراح، وُضع بين يديه عليه السلام فمسحَ الدم
عن رأسه وقال: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، حرٌّ في الدنيا وسعيد في الآخرة"(1). فما
هي قصة الحرّ؟
* نسبه وحسبه
هو الحرّ بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب التميميّ اليربوعيّ الرياحيّ. ينتمي إلى
أسرة شريفة جاهليةً وإسلاماً(2). قال ابن الجوزيّ في تَذكرة الخواصّ: "كان الحرّ بن
يزيد اليربوعيّ من سادات أهل الكوفة"(3).
* أوّل من اعترض الحسين عليه السلام
لم يكن لشخصيّة الحرّ ذِكر قبل واقعة كربلاء، بالرغم من كبر سنّه، حيث كانت ولادته
قبل البعثة الشريفة، وأيضاً كان من الفرسان الشجعان ذوي الصيت الذائع في الميدان.
ولم يذكر اسمه من جملة الشخصيّات التي بايعت الإمام الحسين عليه السلام، ولا أيضاً
في الجبهة المقابلة؛ ويدلّ عليه ما ذكره صاحب أعيان الشيعة حيث قال: ليس لدينا شيء
من أخبار الحرّ رغم كونه من الرؤساء سوى أخباره يوم كربلاء(4).
وكان الحرّ أوّل خارج على الإمام الحسين عليه السلام وأوّل من التقى به من جيش ابن
زياد في منطقة "ذي حسم"، وقد التفت إليه الإمام الحسين عليه السلام قائلاً له:
أَلَنا أم علينا؟ فقال: بل عليكم يا أبا عبد الله، فقال الحسين عليه السلام: لا حول
ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
* صلّى بصلاة الحسين عليه السلام
ولم يزل الحرّ مرافقاً للحسين عليه السلام حتّى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين عليه
السلام الحجّاج بن مسروق الجعفيّ، وكان معه، أن يؤذّن، فأذّن، فقال عليه السلام
للحرّ: أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ فقال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك، فصلّى بهم
الحسين عليه السلام، ثمّ دخل مضربه واجتمع إليه أصحابه، ودخل الحرّ خيمة نصبت له
واجتمع إليه جماعة من أصحابه وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه.
* بداية المواجهة
لمّا كان وقت العصر أقام، فاستقدم الحسين عليه السلام، وقام فصلّى، ثمّ سلّم وانصرف
إليهم بوجهه وخطبهم، وقال في جملة كلامه: "ونحن أهل بيت محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم، أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم
بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلّا الكراهة لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم غير ما
أتَتْني به كتبكم، انصرفت عنكم". فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب
والرسل التي تذكر، فقال الحسين لبعض أصحابه: يا عَقبة بن سمعان أخرِج الخرجين
اللّذين فيهما كُتبهم إليّ، فأخرج خَرجين مملوءين صحفاً فنُثرت بين يديه، فقال له
الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا
نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله، فقال له الحسين عليه السلام: الموت أدنى
إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا، وانتظر هو حتى ركبت نساؤه
عليه السلام، فقال لأصحابه: انصرفوا، فلما ذهبوا
لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين عليه السلام للحرّ: ثكلتك
أمّك ما تريد؟
فقال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحال التي أنت
عليها ما تركتُ ذكر أمّه بالثّكل كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من
سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه.
فقال الحسين عليه السلام: فما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن
زياد، فقال عليه السلام: إذاً، والله لا أتبعك، فقال: إذاً، والله لا أدعك، فترادّ
القول ثلاث مرات، فلمّا كثُر الكلام بينهما، قال له الحرّ: إني لم أؤمر بقتالك، أنا
أُمرت أن لا أفارقك حتّى أقدمك إلى الكوفة، فإذا أبيْتَ فخُذ طريقاً لا يدخلك
الكوفة ولا يردّك إلى المدينة، يكون بيني وبينك منصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد
وتكتب إلى يزيد إن شئت أو إلى ابن زياد إن شئت، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه
العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك، فخذها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية.
* أفبالموت تخوّفني؟
قال الحرّ: إني أذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت، ولئن قُتلت، لتهلكنّ
فيما أرى. فقال الحسين عليه السلام: أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن
تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه حين لقيَه
وهو يُريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب
فإنّك مقتول؟
فقال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى | إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما |
إلى أنْ ختم:
إنْ عشتُ لن أندم وإن متُّ لم أُلَمْ | كفى بك ذلاً أنْ تعيش وتُرغما |
وهكذا استمرّ الحرّ مرافقاً
جيش الحسين عليه السلام حتى انتهوا إلى نينوى، فإذا برسول عبيد الله بن زياد، وهو
مالك بن النسر الكنديّ، فسلّم على الحرّ، ولم يسلّم على الحسين عليه السلام، ودفع
إليه كتاباً من ابن زياد، فيه: "أما بعد، فجعجع بالحسين، حتّى يبلغك كتابي، ويقوم
عليك رسولي أن يلزمك، فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام"(5).
* قرارٌ حُرّ
قال أبو مخنف: لمّا اجتمعت الجيوش بكربلاء لقتال الحسين عليه السلام، جعل عمر بن
سعد على ربع المدينة عبد الله بن زهير الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن
الجعفي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد
الرياحي(6).
ثم قال: إنّ الحرّ -لما زحف عمر بالجيوش- قال له: أصلحكَ الله، أمُقاتل أنت هذا
الرجل؟ فقال: أي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، قال: أفمَا لك
في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضىً؟ فقال: أما والله لو كان الأمر لي لفعلت،
ولكنّ أميرك قد أبى، فأقبل الحر حتّى وقف من الناس موقفاً ومعه قرّة بن قيس الرياحيّ،
فقال: يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: أما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت
والله أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، فقال: أخذ يدنو من الحسين عليه السلام
قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس الرياحيّ: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن
تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء فقال له: يا ابن يزيد إنّ أمرك لمريب، وما رأيت منك
في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلاً؟ ما عدوتُك،
فما هذا الذي أرى منك؟!
قال: إنّي، والله، أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً
ولو قُطِّعت وحُرِّقت، ثم ضرب فرسه ولحق بالحسين عليه السلام(7).
* حرٌّ أمام الحسين عليه السلام
لمّا دنا الحرّ من الحسين عليه السلام قَلَبَ تِرسَه، ثم سلّم على الحسين عليه
السلام وقال: جعلني الله فداك، يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... وإنّي
قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك،
أفَتَرى لي من توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفرُ لك، فانزل، قال: أنا لك فارساً
خير مني راجلاً، ثم وقف الحرّ محادثاً عمر بن سعد، مبيّناً خطورة ما هم عليه...
ولمّا يئس منهم، قرّر المبارزة فجاء إلى الإمام الحسين عليه السلام ووقف بين يديه
وقال له: فإذا كنتُ أوّل من خرج عليك، فأْذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك، لعلّي
أكون ممّن يصافح جدَّك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم غداً في القيامة(8).
وهكذا، صدق ما عاهد الله عليه حتّى أُثخن بالجراحـات، فحمــله أصحــاب الحسين عليه
السلام ووضعوه بين يديه، وبه رمق، فجعل عليه السلام يمسح التراب عن وجهه، ويقول: "أنت
الحرّ كما سمّتك أمّك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة".
*قبره وكراماته
لقد لجأت قبيلته إلى دفن جسده الطاهر في قبر يبعد عن مقتله حوالي الميل تقريباً،
وقد شيّدت فوقه قبّة جُدّدت مراراً، ولا زال قبره علماً مشهوراً إلى زماننا... ومن
جميل ما ذكر في حقّه أنّ الشاه إسماعيل الصفويّ حفر قبر الحرّ فوجد جسده سالماً،
ولما أراد حلّ العُصبة التي على رأسه، سال دمه فأعادها كما كانت، ثم بنوا قبّة على
قبره(9).
1. إبصار العين، السماوي، ص156.
2. أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج4، ص611.
3. (م.ن)، نقلاً عن تذكرة الخواص.
4. (م.ن).
5. تاريخ الطبري، الطبري، ج4، ص308.
6. (م.ن)، ج3، ص317.
7. إبصار العين، (م.س)، ص208.
8. اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص62.
9. سفينة البحار، عباس القمّي، ج1، ص242. نقلاً عن الأنوار النعمانية للسيد نعمة
الله الجزائري.