مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مراقب: حين يسخرُ منكَ الشَّـيـطـان

الشيخ محمد باقر كجك

قلتُ لصديقي الذي تعرفُه نصفُ هذه المنطقةِ: "أسلوبُكَ في السُّخريةِ لا مثيلَ لهُ! كلَّما سمعتُكَ تفاجأتُ من إبداعِكَ في السّخرية! منْ أينَ تقفزُ على لسانكَ كلُّ هذهِ الصُّورِ والتّشبيهاتِ والحيواناتِ والأمثالِ؟".

* خبزنا وملحنا
قالَ لي: "منْ أيّام طفولتي.. كانتْ طفولةً غريبةً يا صديقي. في حيِّنا، حيثُ نشأتُ، السُّخريةُ و"التنكيتُ" خبزُنا وملْحُنا.. لكلِّ شيءٍ لقبٌ، ولكلِّ إنسانٍ عندنا قصَّةٌ مُخزيةٌ لا بدَّ مِنْ أنْ نذكّرَهُ بها، بطريقةٍ "مهضومةٍ" طبعاً". تبسّمَ صديقي هذا، وغرقتُ أنا في مستنقعٍ منْ تفكيرٍ لا ينتهي.
قلتُ في نفسي: "التّنكيتُ" فعلاً مهارةٌ نمتازُ بها نحنُ في هذا المجتمعِ. فنُّ إلقاءِ النُّكتةِ والمزحةِ الثَّقيلةِ، هو سمةُ الفردِ الأكثرِ "حضوراً" من غيرهِ بينَ النَّاس. هكذا يُقال. لستُ مقتنعاً البتَّةَ.

* لكلّ فردٍ لقب
مرةً منَ المرّاتِ، سمعتُ نكتةً درجتْ، تقولُ إنَّ أهلَ قريةٍ من قرانا درجوا على لصقِ لقبٍ بكلِّ فردٍ يعيشُ فيها. وهذا اللقبُ هو إما لخصلةٍ جسديَّةٍ ما، أو موقفٍ مضحكٍ أو معيبٍ، أو لمرتبةٍ اجتماعيَّةٍ أو غيرِ ذلك. وهو لقبٌ يتمُّ تناقلهُ عبرَ الأجيالِ، ولا يمكنُ نزعُهُ بسهولةٍ أبداً. كلُّ فردٍ في هذهِ القريةِ له لقبٌ ساخرٌ، إلّا شخصٌ واحدٌ لم يكنْ لديه ما يمكنُ أن يُلقَّبَ به. فكَّرَ أهلُ القريةِ بذلكَ مليّاً، وحاصَتْ صدورُهم، ثمَّ ركبَهُم الحقدُ أن يكونَ من بينهمْ رجلٌ "زمطَ" منَ الألقابِ، ثمَّ لمَعَتْ في ذهنِ أحدهم فكرةٌ، قال: سمُّوه "زمط"! وهكذا صارَ فلانٌ يُعرف بـ"زمط" بدلاً منْ اسمهِ الذي ارتضاهُ أهلُه لهُ.

ثم قلتُ في نفسي، كمْ يبذل النَّاسُ منْ وقتٍ وجهدٍ لكي يصلوا إلى مرحلةِ السُّخريةِ والاستهزاءِ ولصقِ الألقابِ: مراقبةٌ حثيثة دائمةٌ للتعثُّرِ والأخطاءِ والتشوُّهاتِ الجسديَّةِ والعقليَّةِ والاجتماعيّة، ثمّ حصرُها، وانتخابُ الأشدِّ وطأةً منها، وانتقاءُ تسميةٍ أو عباراتٍ متقنةٍ تصيبُ الشَّخصَ المستهدفَ في بنيته الوجودية، وتضعُ عليه "دمغةً".
نعم! إنها دمغةٌ، بصمةٌ، ختمٌ لا يُمْحى.

* الإنسان كالشجرة
الإنسانُ، مثلُ الشَّجرةِ، يحتاجُ إلى ماءٍ غير آسن، وشمسٍ وهواءٍ وترابٍ. والعاطفةُ الصادقةُ والتَّربيةُ السَّليمةُ هما ماءُ وهواءُ وترابُ الإنسان. لا يقوى عود إنسانٍ إذا كان غذاؤه المعنويُّ فاسداً، والعاطفةُ المحيطةُ به ملوّثةً.
مرّ في بالي العديدُ منَ النَّماذج، منَ الذين تمَّت السُّخريةُ منهم في صغرهم، بشتَّى الطُّرق، ومنْ قِبَلِ أطرافٍ عديدينَ. كانَ هناكَ طفلٌ، لطالما كان يُقال لهُ في المنزل: إنَّنا وجدناكَ وليداً على الباب، ثمَّ ربّيناك.
وعندما كان يبكي، كان الجميعُ يضحكون بطريقةٍ هستيريّةٍ، ثم يراضونه بعد ذلك. عادةً ما تتم السُّخرية من المميّزين، ممَّن يلمع منهم نورٌ ما.

* دمغَة لا تُمحى آثارها
في الحقيقة، نشأ هذا الطفلُ، وفي قلبه فكرةٌ مشوّهة عن علاقته بأهله: هل هم أهله أم لا؟ ثمَّ جنحَ في علاقته معهم نحو التذلُّلِ الدَّائمِ واسترضائهم بشتَّى الطُّرق، واستمرَّ ذلك لحين زواجه. عندما حاولَ إجبارَ زوجته على التعاطي مع أهله بذات الأسلوب، وقعتِ المشكلةُ.
في النهايةِ، تمَّ دمغُ روحِ هذا الفتى، منذ صغره، بدمغةِ المبغوضية، والنَّبذ. لا تُمحى آثار هكذا دمغات.

وهناك دمغاتٌ شبيهةٌ بهذه في كلِّ مكانٍ، بطريقةٍ مذهلةٍ ومرعبةٍ، وآثارُها مختلفةٌ ومتنوِّعةٌ بطريقةٍ لا يمكنُ حصرها. وقلتُ في نفسي: الذي يجلسُ يراقبُ النَّاس، ويتسقَّطُ هفواتهم، ويفضحُ معائبهم بأسوأ العبارات، بالتَّلميح والتَّصريح، إلى ماذا يريدُ أن يصل؟
يشبهُ الأمر هنا، مبارزةً بين وحيديْ قرنٍ، منْ يستطع أنْ يجرَح الآخر وتظهرْ في جلده الجراحُ والدّماء، يفز، "دمغة الغَلَبَة".

* عملٌ مجانيّ للشيطان
ونحنُ في السُّخرية والاستهزاء المتبادل، نحاولُ أن ندمغَ بعضنا بدمغاتٍ متبادَلةٍ. من تكُنْ دمغتُه محكمةً، بارزةً، سوداءَ ولها رائحةٌ، ويستحسنها المجتمعُ ويتداولُها بقوَّةٍ، تكُنْ له مرتبةُ السَّيطرةِ، وإقصاءِ الخصمِ، وتحجيمهِ، بل وتحطيمهِ على المدى البعيد.
في كلِّ هذهِ العمليَّةِ الخصبةِ للدَّمغِ والصَّبغِ المتبادلِ، جلستُ أبحثُ بحزنٍ شديدٍ عمّا ينبغي أن يكونَ صحيحاً. تخيّلْ يا صديقي أنَّ الشَّيطانَ، وأنتَ تحاولُ الاستهزاءَ بغيرك و"التنكيتَ" عليه، والتَّرويجَ لهذه السُّخرية، يجلسُ على أريكة فارهةٍ ويشربُ عصيراً طازجاً ويقلِّبُ القنواتِ التلفزيونية، فقدَ أوكل مهمّة تحطيمِ إنسانٍ (مؤمن أو غير مؤمنٍ) إليكَ... عملٌ مجَّانيٌّ تحتَ نظر الشَّيطان. سيكون الشَّيطانُ فرحاً، وهو يراك تصبغُ عملكَ بصبغته.

* صبغةُ الله أحسن وأجمل
المفقودُ هنا هوَ "الله"، لا شيءَ في البَيْنِ أثناءَ السُّخرية من الآخرين إلا الشَّيطان وماكينةَ التَّدميرِ السَّريعةِ للآخرين. حبُّ اللهِ يعني بناءَ الآخرين وتربيتهم على الوصول إلى الله وخدمة خلقه. والسُّخريةُ منهم تعني نصبَ مصيدةٍ لهم لجرِّهم إلى الحزنِ والغضبِ والسُّخريةِ المتبادَلة، ونسيانِ كلِّ شيءٍ جميلٍ. واللهُ رأسُ كلِّ جميلٍ. الجمالُ لونٌ، والله أحسنُ صبغةً منْ كلِّ لونٍ.
قلتُ لصديقي: الإنسانُ الحقيقيُّ هو الذي يبرعُ في عدمِ السُّخرية. لمَ تُغرقُ نفسكَ والآخرين في العدمِ؟ ولمَ لا ترى أنَّ فيكَ ما سوفَ يشمُّه السَّاخرون ولو عن بُعد ميل؟ سيسخرون منك حتماً، أنتَ خصمُهم. لنْ تصلَ إلى أيِّ شيءٍ بالسَّخريةِ أبداً.

انزعْ صبغةَ الشَّيطانِ عنْ عينيكَ، وانظرْ بلونِ الجمالِ... يكنْ هذا الكونُ كلُّهُ معَكَ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع