الشهيد السيّد عبّاس الموسوي (رضوان الله عليه)
إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب
عليه السلام هما أبَوا هذه الأمّة، وهما المربّيان الحقيقيّان للسيدة الزهراء عليها
السلام. لذلك، وقبل الحديث عن السيّدة الزهراء عليها السلام، سأتحدّث عن الحضن الذي
نبتت فيه عليها السلام، عن محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وسأحاول في
هذه الكلمة المختصرة أن أبيِّن الطريقة التي كان يربّي بها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام هذه السيّدة العظيمة.
* المعاني الحقيقيّة للدنيا والآخرة
إنّ نظرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى
الحياة الدنيا والحياة الآخرة، تؤسّس لتربية ليست على مستوى الفرد أو المجموعة،
وإنّما على مستوى الأمّة بكلّ امتداداتها. وبمقدار التفهّم للمعاني الحقيقية للدنيا
وللآخرة، بمقدار ما تبلغ الأمّة المستوى الحقيقيّ على الصعيد التربويّ، بل على
الصعد كافّة. فكيف كان ينظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الحياة؟
وماذا كانت تعني له؟
يشير بعض الروايات إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يتلو قوله
تعالى:
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ
لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ (الزمر: 22)، كان يقول: "إنّ النور إذا دخل القلب، انشرح
وانفسح"، فسأله سائل: "وما علامة ذلك يا رسول الله؟"، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
"التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود"(1). إذا تجافى الإنسان
[عن] هذه الدار الدنيا ثمّ رجع إلى الله، أناب إلى الآخرة. إذا حصلت هذه العلامات؛
فهذا الإنسان قد انشرح صدره بالإسلام، وبنور الإسلام أيضاً.
* الدار الدنيا في نهج عليّ عليه السلام
لا يوجد رجل -بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- مارس عملياً وقال في الدنيا،
ما مارسه علي بن أبي طالب عليه السلام وما قاله. فقد كان المدرسة العمليّة
المتحرّكة في الإسلام على امتداد التاريخ. لقد رسم عليه السلام في نهج البلاغة
مساراً واضحاً عن حقيقة هذه الدار الدنيا، ودار الآخرة، وكيف ينبغي أن تُسلك هذه
الدار حتّى تصل إلى تلك الدار.
فمن كلمات عليّ بن أبي طالب عليه السلام التي تختصر حقيقة الدنيا: "إنّ الدنيا
تغرّ، وتضرّ وتمرّ. إنّ الله عزّ وجلّ لم يرضَها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً
لأعدائه"(2). تنظر إليها، تجد جمالها فتغرّك بهذا الجمال، فتتمسّك بها، فتصبح
كلّ شيء بالنسبة إليك. تُفاجأ بأنّها أضرّت بك، بينما أنت تلتفت إلى إضرارها، إذ
بها تمرّ سريعاً، تضحك عليك، انتهت حياتك، وأصبحتَ في القبر، حيث حسابٌ بلا عمل،
فوقت العمل قد انتهى، وأنت لا تزال مغروراً بهذه الحياة الدنيا.
* ليست الدنيا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
كانت الزهراء عليها السلام أنموذجاً تربوياً، وعى هذه النظرة، وتفهَّمها تفهُّماً
كاملاً، بحيث أصبحت الزهراء عليها السلام ترجماناً عملياً لنظرة محمّد صلى الله
عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام إلى تلك الدنيا. لذلك قبل أن تقرأوا عن عبادة
السيدة الزهراء عليها السلام، وعن صبرها وعن علمها، وقبل أن تقرأوا عن جهادها
السياسيّ، اقرأوا عن زُهد فاطمة عليها السلام في الدنيا، ما دفع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إلى مدحها أمام المسلمين في إحدى المرّات، بعد حادثة بان فيها زهد
فاطمة عليها السلام. فقال في المسجد على المنبر: "ليست الدنيا من محمّد ولا من
آل محمّد"، قالها ثلاثاً(3). إنّ النظرة إلى الدنيا ومسألة الزهد فيها يجب أن
لا يمرّ عليهما الناس مروراً سريعاً. إنّ هذه الحالة من الزهد عندما تصبح تربية في
نفس الإنسان، تحوِّله إلى كتلة هائلة في سبيل الإسلام.
* مال خديجة وسيف عليّ
خدمت السيّدة خديجة [بنت خويلد] عليها السلام الإسلام بنظرتها إلى الدنيا أيضاً،
وبزهدها. فعندما تزوّجها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كانت أموالها
تعادل نصف أموال أغنياء مكّة، أصحاب التجارات الكبيرة، لكن عندما ودّعت الدنيا،
بحسب الروايات، كانت تملك حصيراً في بيتها فقط، لم يبقَ عندها شيء، تخلّت عن الدنيا
وما فيها.
فقد كان زهدها في الدنيا موجَّهاً، قائماً على أساس واضح وثابت، في خدمة الإسلام،
وفي تعزيز كلمة "لا إله إلّا الله". فعندما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أن يعلن سرَّ انتصار الدعوة الإسلاميّة، قال إنّ سرّ الانتصار يكمن في قوّتين:
"مال خديجة، وسيف عليّ"، ومال خديجة أساسه وقوّته نظرتها الزاهدة في الدنيا.
* فداءٌ لمسيرة الإسلام
كانت السيدة فاطمة عليها السلام مثالاً حيّاً لكلّ امرأةٍ مجاهدة ومسلمة، لذلك كانت
لا تفكّر إلّا في الإسلام، كانت لا تعني لها الدنيا شيئاً، وتخلّت عن كلّ شيء رغم
كلّ مكانتها: زوجة عليّ، وحيدة أبيها الرسول، امرأة الإسلام، سيّدة النساء... هذه
المرأة عندما تعرّضت للأذى، طلبت من عليّ عليه السلام أن يأخذ لها حقّها، لكن
بمجرّد أن سمعت من عليّ عليه السلام أنّ المسألة كبيرة، وهي ليست مسألة حقّ سُلب من
فاطمة عليها السلام، ويجب أن يستعيده عليّ بن أبي طالب عليه السلام: المسألة يا
فاطمة هي مسألة الإسلام الآن. من هذا البيت، من هذه الحادثة يتحدّد مصير الإسلام
الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ بالسيدة الزهراء عليها السلام تستجيب -فوراً- لطلب علي بن أبي طالب عليه
السلام، وتصبر، لم تناقشه ولا للحظة واحدةً لأنّ المسألة فيها مصير الإسلام، يفهم
الإنسان من هذا الموقف مَن هي السيدة الزهراء عليها السلام.
* مظلوميّة على امتداد التاريخ
هذه روحية أهل البيت عليهم السلام، الذين أصبحوا عنوان المظلوميّة على امتداد
التاريخ. وكل مظلوميتهم هي نتاج التزامهم بنصرة الإسلام، ذاك الدين المظلوم. هم
التُرجُمان لهذا الإسلام، فطبيعيّ أن يُظلموا. فعليٌّ لم يكن يمثّل نفسه، بل كان
عليه السلام يمثّل الإسلام، فكان الهجوم على الإسلام هجوماً على علي بن أبي طالب
عليه السلام، ولذلك برزت مظلوميّة علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم برزت مظلوميّة
السيدة الزهراء عليها السلام، وبرزت مظلوميّة الإمام الحسن عليه السلام، ثم برزت
بشكلٍ واضح وكبير جداً مظلوميّة أبي عبد الله الحسين عليه السلام. وهذه المظلومية
نتاجها الأول كان فضح الظلم والظالمين، هذه المظلوميّة التي أطلّ من خلالها أهل
البيت عليهم السلام، هي التي كانت سبباً لوعي الأمّة فيما بعد.
هذه المظلومية في حدّ ذاتها هي التي كانت تُفجّر الثورات، وتفضح الظالم والظلم،
وكلّ أشكال الجور على الإنسانية، وعلى المستضعفين والمعذّبين على امتداد التاريخ.
* سرور الزهراء عليها السلام وفرحها
قليلةٌ هي معلوماتنا عن السيدة الزهراء عليها السلام، وهذه أحد مواطن مظلوميّة
السيدة الزهراء عليها السلام، التي وقفت وهي طفلة صغيرة إلى جانب الإسلام. بهجرة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة، انتقل الإسلام نقلة
نوعيّة. نتذكّر فداء عليّ عليه السلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومبيته على
الفراش، لكن لا يتحدّث أحد عن هجرة السيدة الزهراء عليها السلام من مكّة إلى
المدينة، وما يُسمّى بـ"هجرة الفاطميات"، وكم عانت السيدة الزهراء عليها السلام وهي
طفلة لا تتجاوز التسع سنوات. تحمّلت العذابات، والآلام، والمصائب في هجرتها ولم
تبالِ.
كانت سيدةً عظيمة استظلّت بظلّ الإسلام، والأساس لديها ارتفاع راية الإسلام.
وكان سرور السيدة الزهراء عليها السلام عظيماً عندما وصلت إلى المدينة، وشاهدت
الثمرة، وشاهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف ينتقل من نصرٍ إلى نصر، من
موقع عزّةٍ إلى موقع عزّة. فرحت السيدة الزهراء عليها السلام وأخذ عطاؤها يزداد من
أجل الإسلام. فعلاً يقرأ الإنسان تاريخاً من العزّة، تاريخاً من القوة، عندما يقرأ
شخصية الزهراء عليها السلام. وتاريخُ هذه السيدة العظيمة مليئ بالعزّة.
(*) خطبة ألقاها السيّد عباس الموسوي (رضوان الله عليه)
بتاريخ 9/12/1991م.
(1) مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص447.
(2) بحار الأنوار، المجلسي، ج54، ص132.
(3) الأمالي، الصدوق، ص305.