مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد المجاهد علي عبد العزيز صادق‏ (وحيد)

نسرين إدريس‏


الاسم: علي عبد العزيز صادق‏
اسم الأم: شما سمور
محل وتاريخ الولادة: الخيام 3 - 8 - 1969
الوضع العائلي: عازب‏
رقم السجل: 140
مكان وتاريخ الاستشهاد: المصيطبة 26 - 11 - 1988


عندما انتشر دمه على جدار "الإعدام"، صارت الحقيقة أكثر وضوحاً، والحياة أكثر عمقاً.. وعندما سقط شهيداً بأكثر من ثلاثين رصاصة ثمناً لمواقفه، صرخ بأعلى صوته ويده تتلقف بعضاً من دماه "على حبّ الزهراء عليها السلام".. كانوا أربعة شهداء، هو آخرهم؛ قرأ شهادة الموت بقلبٍ مطمئن، وبسمته الهادئة التي لم تفارق شفتيه كانت الحجة الأخيرة التي حاججهم بها، فاجتثوها بحقدهم لتنبت في الجنة رياحين بين كفي الزهراء عليها السلام..

صبي وحيد بين ثلاث فتيات، هو أصغرهم، سمّته أمه "علياً" ليس عنواناً للتشيع فحسب، بل لأنها قرأت مناقب أمير المؤمنين كلها فأحبت أن يكون ابنها بطلاً مثله، ولكي يصبح المرء بطلاً يجب أن يُربى تربية خاصة، فعمدت على تحميله المسؤولية منذ صغره، فتتكل عليه بأمور خاصة به وهو طفل يصعب على الفتى تنفيذها، فكانت تعطيه قسط المدرسة ليدفعه وهو ابن خمس سنوات، فيدخل إلى غرفة المدير بكل ثقة ويسلمه القسط، ويحادثه بأدبٍ واحترام.. جديرٌ هو بتحمل المسؤولية، ويتعاطى مع الأمور بحزم وحكمة، لهذا ليس من السهل إيجاد زوايا طفولية في حياته التي مرت كسحابة بيضاء في يوم ربيعي جميل، قبل أن يزرع الخريف يباسه على أطراف كفيه..

وإن كُنَّ أخواته قد أحطنه بحبّ واهتمام كبير، فإن والدته كانت تتعاطى معه بالمقدار نفسه الذي تتعاطى فيه مع بناتها، فلم تشعره يوماً أن له في قلبها مكاناً لا يتربع عليه أحد غيره، خوفاً من أن تبذر في نفسه أي بذرة من الأنانية والاتكالية، بل دوماً عليه أن يتحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية إخواته.. أحبته بصمتٍ طويل لم تحسب أن نهايته ستكون نحيباً على قبر الحبيب.. بذكائه الحاد، وحجته القاطعة التي كانت تجنب والديه وأقاربه من فرض أي رأي عليه، وجمال طلعته، والحالة المادية الميسورة لأهله، توقع الكثيرون لعلي دنيا كدنيا هارون الرشيد، خصوصاً وأنه امتلك حساً اجتماعياً جعله مقرباً إلى قلوب الجميع، لكن الدنيا التي عشقها علي سلك دروبها المزروعة بالشوك والتعب بكل اطمئنان ويقين.. في قريته الخيام حيث عاش بعضاً من طفولته، وسمت شخصيته ب"القيادية" لما تحمله من الحنكة والذكاء والتخطيط، فكان يلعب دور القائد دائماً مع رفاقه..

ولكن عندما بلغ سبع سنوات بدأ الجيش الإسرائيلي بحربه التدميرية على لبنان من شماله إلى جنوبه، فقامت العائلة بالهرب من الخيام إلى بيروت، وأول من أرسل على عجل هو "علي"، كانت تلك المرة الأولى التي شعر فيها أن والديه متعلقان به بشدة. لم تكن تلك الحادثة هي السبب الرئيسي لخروج علي صادق نهائياً من قريته الخيام، بل إن هناك سبباً أهم من ذلك بكثير، إذ وأثناء تواجده في القرية خلال العطلة، وكان يبلغ حينها من العمر حوالي خمس عشرة سنة، طلب علي إلى ابنة جيرانهم أن تمتنع عن الحديث مع عميل هو قاتل الشيخ راغب حرب، فعرف العميل بالأمر، وطلب إلى الحاجة أم علي أن ترسل ابنها إلى بيروت منذ الصباح الباكر لليوم التالي، وإلا سيعرضه لمكروه.. هكذا خرج علي نهائياً من قريته، معتبراً الحديث مع أي عميل خيانة للدين والوطن..

وفي بيروت تابع دراسته في أرقى مدارسها، ولم تؤثر عشرة الأغنياء على طينته الطيبة، ولم تخلق أمامه دنيا جديدة، بل على العكس، صارت الدنيا أكثر تفاهةً أمام روحه الباحثة عن الكمال في شباك الفتن.. لقد فهم علي الدنيا على حقيقتها فلم تغره، ولم تسرقه من الحلم الذي خبأه تحت جفنيه الذابلتين.. وإذا كان هناك من يغلبه هواه لمرافقة الأغنياء إلى مجالس اللهو، فإن علي صادق عشق الجلوس في بيوت الفقراء والمستضعفين، وسارع إلى خدمتهم وتلبية حاجاتهم، ونقل المياه والخبز والطعام لهم تحت وابل القذائف وألسنة النار، ويدرس أولادهم دون أي بدل مالي.. كلما كبر علي، ازداد تعلق والديه وأخواته فيه أكثر، وكل فرد منهم يراه بصورة مختلفة، لكنهم اتفقوا أن حبهم له فاق حب القرابة، لأنه بالنسبة إليهم جميعاً بوصلة الحياة.. وبناءً لرغبة والدته التحق بكلية الطب في الجامعة الأميركية، إذ كان حلمها أن تراه طبيباً جراحاً، فكلما نظرت إليه، ورأت جمال سحنته الجنوبية، وبريق عينيه اللامعتين، وطول جسده الملفت، أخذت كفّيه بين يديها وراحت ترسم أصابعه بأناملهما وهي تقول له: "هذه الأنامل ما هي إلا لجرّاحٍ ماهر"..

وتحلم بأن تراه بالمريلة البيضاء، يشارُ إليه بالبنان على أنه أشهر طبيب جراح.. بالمقابل كان علي يود أن يحقق حلم أمه، وإن على مضض، وإذ كان لا يعطي للدرس سوى الوقت اليسير، فإن ذلك لم يمنعه من التفوق في صفه، فكل همه انصب في عمله الذي لم يعرف عنه أحد سوى الأصدقاء المقربين جداً منه.. انتسب إلى صفوف حزب اللَّه بسرية تامة، وصار يعمل ليل نهار لنصرة هذا الخط في زمن تكالبت عليه النفوس الرافضة للحق.. وصار الطريق يتنقل به، من بيروت إلى جبل صافي، إلى محاور الجنوب، وكلما سألته والدته عن مكانه يخبرها أنه في الجامعة، أو يدرس عند أحد أصدقائه..

كلام علي لم يحتج إلى تكرار، فما يقوله يعني الحقيقة، وليس تكتمه عن عمله إلا حفاظاً على نجاح العمل الذي يقوم به، حتى أنه في أحد الأيام تعرض للإصابة في قدميه، وكان مسلحاً، لكن عندما جاء والده وعمه لينقلوه إلى البيت بعد أن أسعفه الأخوة، أخبرهم أنه أصيب برصاص قناص وهو يعبر الطريق نحو منزل رفيقه حيث يدرسون للامتحانات.. هذا الشاب اليافع بوقاره، وتواضعه، وهدوئه الذي يهزم انفعالات الدنيا؛ هيأ نفسه باكراً للرحيل من هذه الدنيا.. قبل استشهاده بيومٍ أو يومين، رأى صديق علي الحميم حلماً؛ أن علي كان في حقل أرضه قاحلة ونباتاته يابسة، فركب على دراجته النارية وانتقل إلى حقل ملي‏ء بالورود.. عندما أخبر علي بهذا الحلم، كان يركب خلفه على الدراجة، وعندما نزل أحس برغبة قوية بأن يبقى مع رفيقه الذي لم يغادره أبداً.. وقف بالقرب منه، وقال له لا شعورياً: "خلينا نشوفك".. كان طلباً غريباً من شخصٍ عادة يبقى مع علي ليلَ نهار.. ابتسم علي ابتسامته المعهودة ولوى عنقه كعادته.. وغاب..

صحيح أن الأيام الأخيرة من حياة علي صادق افتقد فيها لمعنى الهدوء، فهو أصبح ملاحقاً، ودائماً على أهبة الاستعداد للمواجهة والشهادة، حتى أنه وضع وأخواته خطة طوارئ‏ ليهرب من البيت في حال تمت مداهمته، حتى لا يقتل أمام والديه.. وحل النهار الذي انتظره علي صادق؛ بقلب مطمئن، وروح سليمة، وتوكل على اللَّه.. دافع عن وجود المقاومة الإسلامية بكل ما وهبه اللَّه من عزيمة؛ لم يهن، ولم يحزن، كان يدري أن كلمة اللَّه هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى..

حمل بندقيته مع إخوته، والتزموا بالتكليف الذي أوكل إليهم من قيادة المقاومة.. قاتلوا حتى آخر طلقة، نفذت ذخيرتهم ولم ينفذ شوقهم للَّه.. إلى أن حوصروا غدراً، وتم إعدامهم واحداً تلو الآخر.. لم يرْضَ علي صادق أن ينظر إلى الحائط، كان يود أن ينظروا جيداً بعينيه وهو يخاطبهم، لكنهم صمٌ ختم اللَّه على قلوبهم.. قرأ شهادة الموت وعلى حب الزهراء عليها السلام عانق جسده الرصاصات التي لو رأت القمر الذي مزقته ولم يبلغ العشرين من العمر، لعادت إلى بيت النار عاشقة له.. وقع على الأرض وروحه تسبح في رمق أخير، خافوا من لحظات يبقى فيها حياً أكثر، فصوبوا السلاح على رأسه وقتلوه..

بقي التراب تحت جسده ندياً بدمه، محفظته.. ثيابه.. بطاقته، كل شي‏ء من ذكرياته لا يزال ينضحُ بدمه، لا شي‏ء يستطيع أن يمحو نجيعه القاني من الذاكرة.. وحده علي صادق كان الجرح الطري الذي لن يبرأ أبداً..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع