موسى حسين صفوان
هل يمكن أن تتحول القضايا العلمية إلى قضايا اجتماعية وإنسانية، تشغل العالم المتحضر، وتحوِّل مسار حركة التاريخ في ضوء معطياتها الجديدة؟ وهل يكفي بالنسبة لشعوب عالمنا، مراقبة وقائع الأحداث العلمية وما ينجم عنها من تداعيات على كافة الصعد؟ وهل آن الأوان بالنسبة لنا، لنخرج من صفوف المتفرجين وننزل إلى حلبة الصراع، لنكون أعضاء فاعلين في حركة التطور العلمي، وبالتالي نساهم في قطف ثمار تلكم المنجزات بهدف مواكبة مسيرة الحضارة المعاصرة وليس فقط اللهاث خلف مفرداتها المتغيرة بسرعة جنونية؟...
أسئلة كثيرة ربما تعبر مساحات الخاطر، وأنت تقرأ آخر أخبار المنجزات العلمية، كما لو أنك تقرأ عن أحداث ووقائع تجري على كوكب آخر، وفي مجرّة أخرى... "خريطة الجينوم البشري أهم انجاز علمي في العصر الحديث..." "سباق مع الزمن لفك لغز الخريطة الوارثية". "فك جنيوم الأرز"، و"اكتشاف الخريطة الجينية لسمك الترويت"... وغيرها الكثير... فما هي الخريطة الجينية؟ وما أهمية مثل هذا الاكتشاف؟ وكيف نستطلع المستقبل إزاء هذا التطور العلمي الباهر الخريطة الجينية genetic map، هي الرموز الكيميائية التي تحدد المكونات الوراثية للإنسان، باعتباره كائن حي وبالتالي تفتح الباب أمام إمكانية التدخل في التعديل الوراثي، فيما يسمى بالهندسة الجينية من أجل التحكم بالمواصفات البشرية الخارجية والداخلية من ناحية، وبهدف التحكم بأسباب وعلاجات الأمراض الخطيرة والمعقدة التي تصيب الإنسان... ومن ناحية أخرى، فإن فتح هذا الباب، يؤدي بنا إلى فتح باب جديد، وهو الدخول في ميادين الهندسة الجينية لمئات الأصناف من الحيوانات والنباتات التي تتقاطع مع الإنسان غذائياً أو تنقل أو تسبب الكثير من الأمراض التي كانت إلى وقت قريب تعتبر ألغازاً محيرة...
فمنذ أن أعلن اتحاد دولي من العلماء في 14 نيسان 2003 عن استكمال خريطة مبدئية توضح تطور حياة البشر بعد أقل من ثلاثة أعوام على وضع التصور المبدئي للجينوم البشري أي الخريطة الوراثية للإنسان الذي يتكون من شيفرة وراثية تضم ثلاثة مليارات حرف يتكون منها الحمض النووي D.N.A؛ قامت قيامة العلماء، وشهدت ساحة التنافس العلمي سباقاً حثيثاً لاكتشاف المزيد من الحقائق العلمية، فتم اكتشاف عملية تطفّر تسبب نوعاً قاتلاً من سرطان الجلد. ونشطت الدراسات في مجال اكتشاف الجينات المسؤولة عن حدوث أمراض بالغة التعقيد مثل داء السكري، واللوكيميا وأكزيما الأطفال. من ناحية أخرى، يتوقع معهد "ويلكم تراست" (Welcome trust) إننا قد بدأنا واحداً من أكثر فصول الحياة إثارة وتشويقاً ويشارك في هذا المعهد علماء من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان والصين...
ومن جانب آخر تم التعرف على رموز الشيفرة الوراثية لطفيليات الملاريا وللبعوضة التي تنقل هذا المرض ويتوقع أن يؤدي هذا الاكتشاف إلى طرق جديدة لمعالجة عدوى مرض الملاريا الذي يعاني منه عدد كبير من المرضى في العالم. ويعتقد الباحثون أن أول بعوض مقاوم للطفيليات التي تسبب الملاريا يمكن تطويره خلال عام... أما اقتصادياً، فرغم نشاط الهندسة الوراثية والاستفادة من تقنياتها في إنتاج الأصناف النباتية والحيوانية الأكثر انتاجية على مستوى الكم والنوع، فإن اكتشاف الرموز الوراثية لبعض الأصناف، كما جرى أخير بالنسبة للأرز الذي أعلنته شركتا (سينجينتا) و(مرياد جينيتكس)، أو لأسماك الترويت الذي أعلنته مختبرات Gary Thorgard في جامعة ولاية واشنطن، أيضاً يفتح أبواباً واسعة للمنافسة الاقتصادية على صعيد المنتجات الزراعية، خاصة في ظل تطور تقنيات الاستنساخ التي يمكن الاستفادة منها على نطاق واسع في الانتاج الغذائي، رغم المخاطر والتحذيرات الدولية في هذا الخصوص... وبعد هذه الإطلالة...
هل يمكن العودة للسؤال من جديد؟... ما هي ترى الاستعدادات التي نقوم بها نحن في هذا الجزء من العالم الذي ينوء بتبعات المتغيرات السياسية، ولا يطل على وقائع الأحداث العلمية، الناشطة في صناعة المستقبل، ورسم خريطة الحضارة الإنسانية بشكل يصعب معه ملاحقة آثارها وتداعياتها فضلاً عن المساهمة في صناعة وقائعها؛ إلا إطلالة عابرة... وهل يا ترى، سنكتفي، كما فعلنا في الماضي باتخاذ دور المتفرِّج والمصفق لأبطال المنجزات العلمية، وننكفئ باتجاه المجتمع الاستهلاكي الذي رُسِم له هذا الدور في دوائر الاستكبار العالمي؟...
وإذا كنا اليوم نستهلك ثرواتنا الطبيعية المحدودة لشراء منتجات الحضارة المعاصرة وإشباع حاجاتنا الاستهلاكية المتزايدة، فماذا ترى سوف نبيع بعد نضوب تلكم الثروات، وكيف نتوقع أن تستمر حياة أجيالنا المقبلة؟... سؤال، لا بد من طرحه على أنفسنا.