الشيخ محمد توفيق المقداد
يقول اللَّه عزَّ وجلَّ في كتابه المبارك ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ... نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾(1).
يحكي اللَّه عزَّ وجلَّ في هذه الآيات الكريمة قصة أهل الكهف، وهم الفتية الذين كانوا في خدمة الملك "دقيوس" ملك مدينة "إفسوس" من بلاد الروم، حيث تقع في تركيا حالياً، وكيف آمن أولئك الشباب بربِّهم من خلال التدبر في أحوالهم وأحوال الدنيا. والأمر المهم الذي سقنا من أجله الآيات التي تتحدث عن هؤلاء الفتية، هو أنهم كانوا من المقربين إلى ذلك الملك، وكانت الدنيا تحت أيديهم ينالون منها ما يشاءون، لكنهم مع ذلك عندما وصلوا إلى رتبة الإيمان باللَّه تخلوا عن الدنيا وزينتها، وفرُّوا بدينهم إلى اللَّه طالبين منه العون والنصرة، وصادفوا في طريقهم راعٍ فأخبروه بقصتهم فآمن معهم وصار منهم وكان مجموعهم سبعة وكان معهم كلبُ الراعي، وعندما علم الملك بهربهم ذهب خلفهم مع جنوده حتى عثر عليهم في الكهف وكان ملك الموت قد قبض أرواحهم قبل وصوله بأمر من اللَّه، وعندما رآهم على تلك الحال أمر بسدِّ باب الكهف عليهم بالكلس والحجارة، وقال لجنده: "قولوا لهم ليقولوا لإلههم في السماء لينجيهم ويخرجهم من هذا الوضع". المميَّز في القصّة أنهم كانوا شباباً توجهوا للَّه تعالى بعد إيمانهم به بصدق وإخلاص، وخصوصيّة الشباب أن القابلية موجودة لديهم للتغير والتحول ولم يفتهم القطار، ويمكنهم أن يزدادوا هدىً ومعرفة حيث لم يصلوا إلى أرذل العمر، وتقل قدرتهم على المعرفة والعمل.
* من المسؤول عن تربية الشباب
الشباب هم رصيد الأمة للمستقبل، ومن هنا يجب التركيز على أن تكون تربيتهم تربية صالحة وذلك يبدأ من سن الطفولة، سواء في البيت أو في المدرسة التي تُعلِّم تلاميذها التربية الإسلامية الصالحة، أو من خلال البيئة التي يعيش فيها الطفل. لذا نجد أن الإمام الخميني المقدس رضوان اللَّه عليه يُنبِّه إلى ضرورة التربية الصالحة للأطفال، ويقول: "يجب أن تنتبهوا إلى أن تربية هؤلاء الأطفال الذين تشرفون على تربيتهم هل هي تربية دينية وأخلاقية، فإذا قدَّمتم للمجتمع طفلاً متديناً فقد ترون أن نفس هذا الطفل المتدين الملتزم سوف يُصلح المجتمع، وبالعكس لو لا سمح اللَّه تخرَّج من تحت أيديكم أنتم المعلمون ضالاً فقد يفسد المجتمع،
وسوف تكونون أنتم المسؤولون عن ذلك" (تاريخ 11- 6-1979م). ثم يشدد على أن هناك تلازماً بين التعليم والتربية ولا يغني أحدهما عن الآخر ويقول: "إذا كان التعليم، موجوداً وحده فقط فلا فائدة فيه بل هو مضر أحياناً، وكذلك التربية بدون التعليم فإنها لا تثمر وحدها، فيجب إذن أن تكون التربية ويكون التعليم توأمين ومرافِقين لبعضهما البعض، فلو لم يكن التربية والتعليم عند الإنسان توأمين لبقي ضمن حدِّ الحيوانية، والإنسان بدون التربية والتعليم أسوأ من سائر الحيوانات" (تاريخ 12 7 1979م). ويؤكد الإمام الخميني قدس سره أيضاً على ضرورة أن يكون المعلِّم للصبي ملتزماً بالإسلام قولاً وفعلاً ويقول: "إذا لم يكن المعلمون قد تعلموا وتربوا بشكل صحيح فإنهم لن يستطيعوا تربية وتعليم الشباب، ذلك أن كل أمر يقوم به الإنسان ينبع أصلاً من ذاته، يجب أيها السادة أن تبدأوا بإصلاح أنفسكم أولاً وآمل أن تقوموا بذلك حتى تستطيعوا القيام بإصلاح المجتمع" (تاريخ 1 7 1980م).
ويشدد الإمام قدس سره أيضاً على دور الأهل في مسألة التربية لأبنائهم فيقول: "لينتبه الآباء والأمهات إلى أن سنوات المرحلة المدرسية والمرحلة الجامعية هي سنوات المراهقة والشباب عند أبنائهم، وقد ينجذبون في هذه المرحلة إلى المجموعات الفاسدة والمنحرفة بأبسط الشعارات (23 9 1981م). ثم يعطي الإمام الخميني قدس سره حكماً صارماً ضد المتساهلين في مسألة التربية والتعليم ويقول: "إن الاستهتار والتساهل في مسألة التربية والتعليم خيانة للإسلام والجمهورية الإسلامية وخيانة للاستقلال الثقافي للأمة..." (تاريخ 25 12 1978م). من كل هذه النصوص الواردة عن الإمام الخميني يتضح أن المسؤولية الأساس في تربية الشباب تقع على عاتق الأهل أولاً ثم على عاتق المدرسين ثم على عاتق الشباب أنفسهم.
* مسؤولية الأهل والمدرسة
مسؤولية الأهل هي في أن يربوا أبناءهم التربية الإسلامية الصالحة،وأن يراقبوا أبنائهم في البيئة التي يعيشون فيها بحيث يرشدونهم إلى مصادقة الأصدقاء الجيدين الذين يتربون في بيوت ملتزمة، وأن يحذِّروهم من مرافقة الأصدقاء الفاسدين وتهيئة ولدهم لمرحلة الشباب وهو مزود بتربية إسلامية تؤهله للتمييز بين الصالح من الأمور والفاسد منها. ويجب التعاون بين الأهل وبين المدرسة التي يتعلم فيها ولدهم، وكلما كانت المدرسة إسلامية الطابع والمنهاج التربوي والتعليمي، وكان التعاون موجوداً بين الأهل والمدرسة والمعلمين من خلال الرقابة المشتركة في المدرسة والبيت والبيئة، كلما كان ذلك لصالح الولد ومنفعته وذخيرة للمستقبل.
وفي مرحلة ما قبل البلوغ، يجب على الأهل تعليم أولادهم واجباتهم الدينية من الصلاة والصيام وغيرها حتى يتعودوا على الالتزام بالحكم الشرعي منذ تلك المرحلة، لأن تركهم قد يحمل مخاطر ويصبح من الصعب على الأهل تعليم أولادهم ذلك بعد البلوغ، وكذلك يجب على الأهل في هذه المرحلة تعريفه بالمحرمات ونهيه عن ممارسة هذه الذنوب بحيث إذا بلغ يكون كارهاً ومبتعداً عن المحرمات. وبعد وصول الطفل إلى مرحلة "البلوغ" تبدأ إدراكاته العقلية بالانفتاح على الدنيا، وتكون إمكاناته الجسدية في طور الاكتمال، ويبدأ مرحلة جديدة نسميها بمرحلة الشباب، وهنا ينزع الشاب إلى إثبات نفسه وتحقيق شخصيته المستقلة، فإذا لم يكن تحت المراقبة ولم يكن هناك إرشاد وتوجيه، فسوف يتفلت الشاب من كل الضوابط خصوصاً إذا كانت البيئة والمحيط فاسداً أو غير صالح، ولم يكن الشاب قد تحصَّن في مرحلة ما قبل البلوغ بالتربية الإسلامية الصالحة. وقد ورد في الأحاديث ما يشير إلى خطورة هذه المرحلة مرحلة الشباب فعن النبي صلى الله عليه وآله "الشباب شعبة من الجنون"، وعن الإمام الصادق عليه السلام "لستُ أحب أن أرى الشاب منكم إلاّ غادياً في حالين "إما عالماً أو متعلماً"، فإن لم يفعل فرَّط وضيَّع، فإن ضيَّع أثِمَ، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً بالحق" وعن الإمام الباقر عليه السلام "لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لم يتفقه لأدبته".
ولا شك أن هذه النصوص تشير إشارات واضحة وصريحة إلى مخاطر ترك الشاب يدخل معترك الحياة من دون تحصين فكري وعقائدي وفقهي وأخلاقي وسلوكي، لأنه يؤدي حتماً إلى الوقوع في الذنوب والمعاصي والضياع كما يحلف بذلك الإمام الصادق عليه السلام، ويؤكد الإمام الباقر عليه السلام بأنه حاضر لتأديب الشاب إذا لم يتفقه، والتفقه هنا يراد به التعلُّم الأعم الذي يشمل كل جوانب الإسلام لأنه بالعلم من جهة والتربية الصالحة من الجهة الأخرى يقدر على الوقوف عند الحدود والضوابط الشرعية ولا يتجاوزها لأنه يحمل سلاحاً قوياً قادراً على منعه. ولذا نجد في الأحاديث مدحاً كثيراً للشاب المؤمن الملتزم، ومن ذلك ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "ما من شاب يدع الدنيا ولهوها وأهرم شبابه في طاعة اللَّه إلا أعطاه اللَّه أجر اثنين وسبعين صدِّيقاً" وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله "إن أحبَّ الخلائق إلى اللَّه عزَّ وجلَّ شاب حدث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله للَّه وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول "هذا عبدي حقاً"" وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً "إن اللَّه يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة اللَّه". يجب علينا أن نضع مثل هذه الأحاديث في متناول الشباب ليعرفوا قيمة التزامهم وتدينهم وسلوكهم الإسلامي المستقيم في كل مجالات الحياة.
* مسؤولية الشاب تجاه نفسه
ولكن مع كل ذلك فإن الشاب تقع عليه المسؤولية الكبرى تجاه نفسه، لأنه المسؤول الأول عن أفعاله، سواء تهيأت له التربية الصالحة في مرحلتي الطفولة والشباب أو لم تتهيأ، لأنه كشاب قد صار مكلَّفاً ومسؤولاً عن أفعاله وأعماله ولا عذر له عند اللَّه لو غفل عن تربية نفسه وعن تهذيبها وتأديبها، لأنه كمسلم لا بد أن يعلم أن هناك حدوداً وضوابط شرعية لا تجوز مخالفتها أو التعدي عليها لأنه يترتب عليها مسؤولية أمام اللَّه عزَّ وجلَّ. فالشاب المسلم ينبغي أن يلتفت إلى نفسه أولاً وقبل كل شيء ليحصنها بالارتباط باللَّه والاستعانة به والتوكل عليه، ثم يسعى إلى تأمين حياته إما من خلال التعلُّم ليكون عنصراً فاعلاً في المجتمع، كالطبيب أو المهندس أو غير ذلك من الاختصاصات المحتاجة إلى سنوات من الدراسة والتعب، أو أن يتعلم مهنة أو حرفة ما، ليقدم من خلالها خدماته للمجتمع أيضاً، لأن حياة الناس تحتاج إلى كل ذلك.
أما أن يعيش الشاب حياته بلا تعلُّم لاختصاصٍ ما أو مهنة وحرفة ما ويعيش عالة على أهله أو المجتمع، ويعيش الفراغ من كل هذه النواحي، فهذا هو الخطر بعينه، لأن هذا الفراغ هو المدخل للكثير من المفاسد، لأن الشاب لا بد أن يملأ ذلك الوقت الفراغ بشيء ما، ولن يجد مجالاً أمامه إلا العبث واللهو واللغو مع من يماثله من الشباب الفارغ والخالي، ومن هنا تتكون حلقات الفساد بين الشباب الذين قد يوغلون كثيراً في خط الانحراف، وقد لا يقتصر الأمر على إفساد أنفسهم، بل قد يجرون معهم الكثير من أمثالهم أيضاً كما نرى ذلك في مجتمعاتنا وفي المجتمعات المعاصرة التي أهملت جانبي التربية والتعليم الصحيحين، وتركت الشباب عرضة لأصحاب العقائد الفاسدة والسلوك المنحرف في كل الاتجاهات الفكرية والأخلاقية. من كل ذلك نقول إن الشباب هو المرحلة المفصلية في حياة الإنسان والتي تحدّد المسار لمستقبل حياته من خلال التوجه والسلوك الذي يتخذه في هذه المرحلة الحرجة، فإذا أحسن الاختيار ضمن حياته للحاضر والمستقبل، وإن أساء الاختيار خسر الحاضر ولن يضمن المستقبل، وقد أحسن السيد القائد الإمام الخامنئي دام ظله في تشخيص مرحلة الشباب حيث يقول في خطابٍ له: (أما الشاب فإنه يعيش حالة من تطور الأحاسيس والغرائز والنمو الجسدي والروحي وهو يخطو نحو عالم جديد بالنسبة له، وعلى الأغلب فإن المحيطين به من أهل وأفراد المجتمع يجهلون هذا التحول أو الانتقال الجديد، أو لا يهتمون لأمره، مما يدعو الشاب للشعور بالعزلة والوحدة، والشاب في مرحلة شبابه يواجه عالماً كبيراً يكتشفه للمرة الأولى حيث لم يسبق له تجربة هذا العالم، أو الاحتكاك بشخصياته التي يقابلها، ولهذا فإنه يشعر بحاجته للدليل والمرشد والعون الفكري، والمؤسسات التي ينبغي أن تمده بهذا العون قد لا تساعده أو لا تعطيه الوقت الكافي الذي يحتاج إليه).
فالشباب وهم رصيد الأمة لمستقبلها، أمانة في أعناق المجتمع الذي يعيشون فيه، خصوصاً في أعناق الفئة القادرة على التوجيه الصحيح والهادف، كما أن الشباب أنفسهم هم مسؤولون عن البحث عمن يأخذ بيدهم نحو سلوك طريق الإيمان الصحيح والاستقامة في الفكر والسلوك والتوجهات العملية في الحياة ليكونوا قادة المستقبل بنحو فاعل ومنتج ومفيد.