د. أمين الساحلي
كثيراً ما يرتبط التغيير كتصور ذهني بمعان وتصورات أخرى كالانقلاب والغلبة والقهر والقوة والضجيج وغير ذلك. ولقد تعزز هذا الارتباط عبر تاريخنا الطويل من خلال ما عرف عن التحولات التاريخية التي قامت بأكثرها على أسس بدائية، حيث قامت على القهر والغلبة في حالات الحرب أو على مبدأ الوراثة في حال السلم.
ولهذا شبّه للكثير من المنظرين السياسيين والاجتماعيين أن التغيير يحتاج بشكل أساسي إلى عنصر الشباب لإحراز خطىً أكيدة واثقة منتصرة، حيث أن الشباب يحملون في خصائصهم القوة والاندفاع اللازمين لإحراز التغيير. غير أن الباحث المتأمل يستطيع أن يفرق بدقة وبحزم بين مفهومي التغيير والانقلاب، إذ ربما صح أن يقال أن الانقلاب لا يحتاج تحققه إلى أكثر من القوة والحماسة والاندفاع، وذلك بصرف النظر عن مرتكزاته القيمية والحضارية. هذا في الوقت الذي لا يكون التغيير تغييراً بالمعنى الدقيق للكلمة إلا إذا استوفى شروط الارتكاز إلى الأسس العلمية الطبيعية السليمة، ومشى بحركة موزونة محسوبة لا بحركة فوضوية مربكة متخبطة.
إن التغيير يقوم أساساً على استنباط ما يجب الالتزام به من المبادئ والقوانين ثم يلي ذلك في الأهمية ما يحكى عن الحاجة إلى القوة لاعتماد هذه القوانين ونقلها إلى حيز الفعل والتأثير. ولهذا لن يكون الجديد في كلامنا هو المزيد من دعم الارتباط المألوف بين مفهوم التغيير وبين الشريحة الشابة من شرائح المجتمع، بل إننا نريد أن نرسم بعنايةٍ الجزء المخصص لهذه الشريحة في ماكنة التغيير الكبرى. إن التغيير يجب أن يتكون في رحمٍ هادئٍ ساكن قبل أن يقفز إلى عالم الضجيج والصخب والعنف، وهو كأي مولودٍ ترتسم أكثر ملامحه في مرحلته الأولى تلك. ففي هذه المرحلة يبدأ الفكر النافذ والحكمة الراسخة الأمينة بقراءة الواقع ووضع كل شيءٍ في موضعه من أجل أن ترتسم الصورة أمامه في صيغتها الأدق، مهما كانت هذه الصورة تعيسةً أو مشوهةً وذلك لأن الحكمة لا تخدع نفسها ولا يمكن أن تصور لنفسها القبيح حسناً والقريب بعيداً. قد يكون أثر هذا الكلام في عملية التغيير لغير صالح إعطاء الشريحة الشابة الموقع الأساس. إن ما نصبو إليه هو إعطاء هذا الجزء دور الجزء الضروري بامتياز ولكن بصيغة تابعة لما يمكن أن يوجد عند غيره، لا بصيغة مستقلة معزولة. نستطيع أولاً أن نجد هذه الصيغة بعينها في ما تشير إليه وجهة النظر الإسلامية المنتزعة من السياق التالي:
طلب العلم والسؤال عنه هو من التكاليف الأصيلة التي كلف بها الإسلام كل إنسانٍ في مسيرة حياته وفي مواجهته لجملة التحديات فيها، فهو مأمور أولاً بأن لا يسير بغير علم ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...﴾ (الإسراء/36)، وهذا النهي جاء مقروناً بواجبٍ آخر هو السؤال عن العلم ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء/7)، إذاً العلم صفة ضرورية يجب أن يتحلى بها كل عاملٍ في مشروع تغيير أو إصلاح. والسؤال هو هل لصفة العلم هذه صلة بمرحلة عمرية محددة؟ إن إشارة جملة من الآيات الكريمة لوجود صلة أكيدة بين العلم والمراحل العمرية ليضع أمامنا الصيغة آنفة الذكر بشكل واضح. فلقد تحدثت هذه الآيات عن طرفي العمر بطريقة وأوصاف متشابهة، إذ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ (النحل/78) وقال أيضاً ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ (النحل/70)، وفي هذه الآية الأخيرة إختيرت صفة عدم التعلم من جديد كعنوان وتفسير لصفة أرذل العمر. ثم بيّن تعالى أن النقطة الأسمى بين هذين الطرفين المذمومين هي نقطة مقرونة بالعلم والإستواء والنضج والحكمة. ويقول تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ (يوسف/22)، ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (القصص/14). يقول تعالى ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ...﴾ (الأحقاف/46) وفي ذلك إيحاء بأن المرحلة العمرية الأكثر نضجاً ولياقة لحمل العلم اللازم في مواجهة تحديات الحياة هي مرحلة بلوغ الأربعين وأهل هذه المرحلة هم أهل العلم والحكمة وهذا دأب نجده في بعث أكثر الأنبياء عليهم السلام. وحتى يتسنى لنا رؤية هذا الأمر بالمزيد من الوضوح سوف نستعرض بعض النقاط الأساسية فيما يتطلبه التغيير.
* القراءة الحكيمة للواقع المأساوي موضوع التغيير:
إن الحديث عن المأساة مهما كان قاسياً ومحبطاً، فهو ضروري جداً حينما يكون حديثاً واقعياً شريفاً، وذلك أن إغماض الجفون عن وجود الخطر لا يلغيه. إن الإنسان الطامح الذي يحب واقعه ويسعى به إلى مستقبلٍ زاهر لا بد له أن يرى هذا الواقع على حقيقته قبل أن يخطو أي خطوة، ولهذه القراءة أثر كبير يتحكم بمستوى نجاح أو فشل مسيرته. إن ستر العيوب لا يكون بالأقنعة، بل على العكس يتم من خلال الجهاد المبذول للإصلاح في أكثر أشكاله نصوعاً وبراءةً وتصارحاً. ولذلك فإن القراءة حينما تكون صريحة وصادقةً، لن تقود إلى الإحباط واليأس مهما كانت مرةً وتعيسة، بل على العكس من ذلك ستجد الشعلة لها في مداد الألم ما لن تجده في واحات الرخاء، وستحفز المأساة في قلب الضعف عبقريةً وعزيمةً تضعه فوق مقاييس القوة وقوانين الشدة. وأول ما سوف يتحلى به حامل لواء التغيير في قلب المأساة، والمبتلي بمختلف العثرات والضياعات والإخفاقات، أول ما سيتحلى به هو الإقلاع عن المعتقد. وسيجد نفسه مرتاحاً في تسليمه لقوانين التغير والتغيير في الطبيعة، وسيعمل بإصرار لا عناد فيه، وحماسٍ لا انفعال فيه، وحلمٍ لا خيال فيه، وعزيمةٍ لا شبهة فيها، وانطلاقٍ لا تهور فيه، وعنايةٍ لا جبن فيها، سيكون قانعاً بالحقيقة فهي أكبر أسمائه وأعز ثروته وأقوى قوته، فهو لا يخترع ولا يزين ولا يشبّه.
إن تغييرياً جاداً مقتنعاً بأن الحل لن ينزل بصيغة سحرية تمر مرور البرق، بل هو هدف سيكون دون الوصول إليه الكثير من العقبات والتحديات التي لن يتم تجاوزها بغير أدوات التغيير المستلة من نفس قوانين الطبيعة بمنتهى التسليم والاستسلام، سوف يبحث عوضاً عن الحل، عن الطريق إلى الحل وهذه الطريق مهما كان طويلاً فإن من الممكن اجتيازه طالما أن له خطوةً أولى فما هي خطوة هذا الطريق الأولى؟
* الإخلاص للهدف:
ويكون ذلك أساساً بعدم تحويل الانخراط في العمل التغييري السياسي والاجتماعي إلى فرصٍ سانحةٍ يجب انتهازها لتحقيق مكاسب وامتيازات متنوعة. حين ذلك سيكون العامل طامحاً لأجل ذاته ولا علاقة له بمعانٍ كالتضحية والبذل والخدمة والمسؤولية الحقيقة، سيكون أيضاً سباقاً إلى اكتشاف الثغرات التي يمكن أن يتسرب من خلالها بطموحاته وهو أيضاً يعمل متملقاً على خطب ودّ مواقع النفوذ والقوة بضمير باردٍ ميتٍ. والعمل التغييري مهما كانت شعاراته ساميةً، فهو لا يلبث أن يتحول إلى مؤسسة ذات شكل هرميِ تتحول فيه المواقع إلى فخوخٍ واستدراجاتٍ تحاول أن توقع من خلال بريقها بطهارة الروح لدى العامل، فيتعثر منحرفاً عن اتجاهه الأصلي نحو اتجاه جديد يسير إلى خدمة الذات في منحىً أناني تعسفي. وعليه فإن حمل ألوية التغيير لسلاح ذو حدين، فهو ضرورة بحسب منطق الطبيعة والواقع، وشرك لما سيشتمل عليه من صفات الإغراء المتعددة، ولذا فإن عثرة العامل في إطار مشروع ما ستسقط ذلك المشروع على رأسه ورأس من معه، وذلك لن يكون نتيجةً جزائيةً بل هي في الواقع نتيجة طبيعية تنتجها القوانين النافذة في طبيعة الأفراد والمجتمعات. وهكذا نرى أن صفة الإخلاص من الصفات الكريمة التي اهتم القرآن الكريم بإبرازها بصيغ متعددة لدى الأنبياء عليهم السلام الذين قادوا عمليات التغيير طوال تاريخ الإنسانية ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا ...﴾ (مريم/51) وقال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين﴾ (ص/82).
فهم في أمانٍ من سطوات الإغراءات الشيطانية والمادية. لذلك فإن الشباب إذا أخلص لهدف وهو من يحمل القوة والنشاط فإننا نجده أكثر تصميماً وقوّة وفاعلية وإقداماً، واستعداداً للتضحية.
* الاستعداد للتضحية:
يتكون في رحم هذا العامل بالذات غالبية الواقع القادم مع الغد الموعود، ولذلك فإن الانتماء إلى مشروع تغييري والانخراط بتحقيق الحلم الجميل لن يكون جدياً بتاتاً بدون الاستعداد المذكور للتضحية. وليست التضحية كلمةً رومانسيةً أو طقساً من طقوس جلد الذات وهدم الأنانية وتشرفاً بالتفرد في جحد قانون الطبيعة القائم على أساس التعادل والتكافؤ. إن التضحية بهذا المعنى لن تكون إذا وجدت سوى عقدةٍ تقتل نفسها بنفسها من دون أن تفتح أي بابٍ من أبواب الأمل للآخرين. غير أن التضحية اللازمة لن تكون سوى الثمن الأغلى الذي يرضى بدفعه من يسعى إلى الأكثر جودةً والأفضل قيمةً، ففيها إذاً معنىً من معاني التبادل والتعادل على خطٍ ومستوى أعلى من المعتاد، وكأن المضحي بنفسه بالمعنى الثاني أكثر إلحاحاً للوصول إلى ما يبتغي الوصول إليه. وهو لذلك أكثر جديةً ودقةً في وضع الثمن المناسب في كفة الميزان حتى يكون الرجحان لصالحه وهو يطلب أكبر ثمن يتناسب من كبر تضحيته. ولعل هذا الثمن الكبير هو ما تشير إليه الآية المباركة ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: 109).
* البصيرة والوعي:
ليس في عملية التغيير عنصر أهم من عنصر التبصر والوعي، وليس المقصود بالوعي هنا هو ما يقابل بالضبط معنى الجهل، حيث لا يكفي أن يحوز العامل على جملة من المعارف حتى ينطلق في مسيرته التغييرية بنجاح. بل الوعي هنا هو إعطاء كل معرفةٍ شكلاً فعلياً مؤثراً مستمراً، وعليه لن يكون الجهل هو الخصم الوحيد في الساحة، بل ستتعاون كل عناصر السلب كالهوى والمصالح الدنيئة والكسل والتبلد وغيرها لتشكل حاجزاً يعترض طريق الوعي المتجه من عالم المجردات إلى عالم الفعل والتأثير. ولن يكون من المبالغة القول إن هذا الوعي المطلوب لتوفير أساسٍ تغييري متين، لن يستطيع أن ينأى بنفسه عن مؤثرات الواقع المطلوب بتغييره، فسوف لن يسلم في أحسن أحواله من جملة من التشوهات التي تضطر صورته مرغمةً لحملها والقبول بقبحها. ولا يوجد هناك وعي يؤثر ولا يتأثر، يشكل ولا يتشكل، إلا ذلك الذي جادت به مصاريع الرحمة السماوية في مدارس الوحي عبر التاريخ. أن ما ذكر يعطي الانطباع الكافي الذي نريد إثباته عن دور الشباب الأكيد في عملية التغيير فهم المندفعون للانخراط في العمل التغييري بالإخلاص المنقطع النظير وهم المستعدون للتضحية بامتياز وهم سيكونون الأكثر استجابة للمنطق السليم والحكمة العالية التي وإن كان غيرهم أقدر منهم على استعمالها واحترافها، غير أنهم مهيؤون جداً لطاعة والتزام وتطبيق ما قررته هذه الحكمة وما سنّه هذا الوعي من الرؤى فهم سفراؤه من عالم القيد والتنظير إلى عالم التأثير والفعلية والواقع. إذاً وبكلمة، الشباب ضرورة تغييرية كبرى بصيغتها التابعة لا بصيغتها المستقلة التي يمكن أن تؤدي إلى نكسةٍ في المشروع التغييري برمته.
وقد نجد ما يشير بوضوح إلى هذا الترتيب في مضمون الآية التالية التي سنختم بها كلامنا ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾ (الحديد/25)