الشيخ حسن أحمد الهادي
ذكرنا في عدد سابق اتّجاهات المسلمين ومفكّريهم ممّن قدّموا العديد من الدراسات في قضايا المرأة وفق اتّجاهات ثلاثة. وذكرنا ردّاً مختصراً على كلّ اتّجاه. ونكمل في هذا العدد الرؤية الصحيحة من خلال معيارين:
الأول: رسم صورة المرأة الحقوقيّة والمعنويّة في القرآن
بات من الواضح وجود آيات كثيرة في القرآن تتحدّث عن المرأة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآيات من ناحية العدد أكثر من مائتي آية تتحدّث عن المرأة بأشكال عدّة، فيقرّر القرآن حقيقة أنّ الرجل والمرأة من بداية الخلق، إلى السكن في الجنة، إلى الهبوط إلى الأرض متساويان(1).
1- متساويان في القرآن
لا يميّز القرآن بين الرجل والمرأة في فلسفة الخلق(2)، ولا في الاستعدادات التي يحملانها، من الروح الإلهيّة المنفوخة فيهما، والمساواة في الخلق، والقدرات الإدراكيّة والفطرة الإلهيّة، والوجدان الأخلاقيّ، والأمانة(3). وكذلك لا يميّز بينهما في القيم الإنسانيّة مثل: الإيمان والعمل الصالح والعلم والتقوى والسبق إلى الإيمان، والجهاد والهجرة وطريق السعادة. ويظهر القرآنُ أنّ الشيطان عدوّ الإنسان –مطلقاً-، وأن الرجل والمرأة يكمل أحدهما الآخر(4).
2- مقامات المرأة عالية
وكذلك نجد أنّ القرآن قد جعل من امرأتين عرفهما التاريخ مثلاً أعلى للمؤمنين، وهما آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران(5). ويذكر للأخيرة مقامات عالية كالاصطفاء والطهارة والتحدُّث مع الملائكة(6). ويُبيّن القرآن أنّ فلسفة الزواج والأساس الحاكم هما المودّة والرحمة(7). كما يرى أنّ الإحسان إلى الأب الرجل والأمّ الأنثى مساوٍ لعبادة الله(8).
3- مشاركة المرأة في الحياة
ويُخبرنا القرآن عن مشاركة المرأة في ساحة العمل الاجتماعيّ، ويذكر مثلاً لذلك ملكة سبأ التي يمدح فيها رجاحة العقل التي أدّت بها إلى الإيمان بنبوّة سليمان عليه السلام. وكذلك يُحدّثنا عن عفّة وحياء ابنتَي شعيب رغم نشاطهما في طلب الرزق.
وفي المفاهيم السياسية كالبيعة والهجرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمباهلة نجد أنّ القرآن ينظر إلى المرأة والرجل بعين واحدة، ويحترم الحقوق الاقتصاديّة للمرأة ويحفظ لها حقّها بالسلطة على أموالها، ويحكم لها بالإرث(9).
4- المرأة في العلاقات الاجتماعية والأسرية
ويدعو القرآن الرجل والمرأة إلى الرضى والقناعة في العلاقات الاجتماعيّة، ويأمر المرأة بالحجاب والستر وينهاها عن التبرّج الجاهليّ، كما ينهاها عن إبراز البعد الأنثويّ في علاقتها مع الآخرين.
وفي مجال الحقوق وتنظيم العلاقات الأسرية وغيرها، نجد أنّ القرآن يؤكّد على قيمومة الرجل على الأسرة.
ويُميّز بين الرجل والمرأة في الشهادة والحصّة في الإرث(10).
ومن خلال هذا التقرير السريع للتصوّر القرآنيّ عن المرأة، نكتشف أنّه تصوّر معقول يمكن الدفاع عنه. وعليه، فلا بدّ أن تكون الروايات والاجتهادات الفقهيّة ضمن هذا الإطار، ولا تتجاوزه.
وللطمأنينة والأمانة العلمية في رسم صورة المرأة إسلاميّاً، يؤكّد الأصوليون في كتبهم على وجوب البحث عن كلّ ما يُشكّل قرينة لفهم رواية ما، سواء أكانت هذه القرينة رواية مخصّصة لعموم أم مقيّدة لإطلاق، أم غير ذلك ممّا يربط الروايات بعضها ببعض.
وبناءً عليه، فإنّ الاكتفاء في مقام العمل بمجموعة خاصّة من المصادر الحديثية، دون تجاوزها بحثاً وتحقيقاً، سيؤدّي إلى الحياد عن هذا المنهج، أو الخروج بنتائج لا تستند إلى مستند تامّ.
النتيجة: المرأة والرجل في الرؤية الإسلامية صنفان من نوع واحد لا نوعان من جنس واحد. وعلى الرغم من الوحدة النوعيّة بينهما يتمتّع كلّ منهما بخصائص مميّزة له عن الصنف الآخر. وربّما كانت هذه الخصائص المميّزة منشأ للاختلاف في الحقوق والأوضاع القانونيّة، دون أن يؤدّي هذا الاختلاف إلى التفاوت في الإنسانيّة أو القيمة. وعلى ضوء ذلك يحسن الانطلاق في البحث من نقاط الاشتراك ثمّ الالتفات بعد ذلك إلى وجوه الاختلاف.
الثاني: النظرة الموضوعيّة في دراسة فقه المرأة وحقوقها
1- إنسانيّة الرجل والمرأة: تكشف النصوص الإسلاميّة عامّة والقرآن الكريم خاصّة عن رؤية واضحة إلى كلّ من الرجل والمرأة، مفادها اشتراكهما في الإنسانيّة وخصائصها ولوازمها، حيث إنّ الإنسان إنسان بروحه لا بجسده، وفي عالم الروح لا أنوثة ولا ذكورة، بل هما من عالم الجسد. وتتجلّى هذه الرؤية الموحّدة بين الرجل والمرأة في موارد عدَّة في النصوص الدِّينيّة، منها: أن الرجل والمرأة متساويان من ناحية الخلق لجهة العلاقة بالمبدأ والهدف الّذي أُريد لكلٍّ منهما، ومن ناحية الماهيّة والحقيقة، ومن ناحية الاستعدادات والقابليّات الذاتيّة للتكامل.
أ- فمن ناحية المبدأ؛ يرتبط كلاهما بمبدأ واحد وبالدرجة نفسها، وهذا ينطبق على الإنسان الأول آدم وحواء، كما ينطبق على ذريّتهما. فالقرآن يُصرّح بخلق المرأة والرجل من نفس واحدة(11).
ب- وأمَّا الهدف الّذي خُلقت المرأة من أجله، فهو عين الهدف الّذي خُلق الرجل من أجله. ويؤكّد بعض آيات القرآن الكريم هذه الحقيقة عندما يُقرّر أنَّ الله خلق الإنسان من أجل التكامل من خلال العبادة: ?وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ?. ومن جهة أخرى، أشار إلى وحدة الهدف القريب المراد من خلق الرجل بالنسبة إلى المرأة والعكس؛ حيث تُشير الآية إلى السكن المتبادل بين الرجل والمرأة(12). فكما إنّ الرجل يسكن إلى المرأة، فهي كذلك تسكن إليه.
ج- في الماهيّة الإنسانيّة ولوازمها: يترتّب على وحدة الهدف، أو هو من الأمور الملازمة لها، اتّحاد المرأة والرجل في الحقيقة والماهيّة، وبالتّالي ليس أيّ منهما إنساناً من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الآخر.
د- في الاستعداد والقدرات: ومن لوازم وحدة الهدف من خلق الرجل والمرأة وجوب توفّرهما على استعدادات متساوية تسمح لهما بالترقّي في مدارج الكمال، دون أن يكون للرجولة أو الأنوثة ميّزة على هذا الصعيد، فكلاهما يتوفّر على نفخة من روح الله(13)، وكلاهما مخلوق في أحسن تقويم(14)، وكلاهما عُرِضت عليه الأمانة الإلهيَّة وتحمّلها(15). وأخيراً عندما بعث الله أنبياءه ورسله إلى البشر لم يُميّز بين الرجل والمرأة في توجيه الرسالة والخطاب الإلهيّ إليهما(16).
هـ- في معيقات التكامل: كما يشترك الرجل والمرأة في سبيل التكامل، كذلك يشتركان في معيقات التكامل؛ فهذا هو القرآن الكريم يُشير إلى النفس الأمّارة بالسوء(17) بوصفها مُفسدة لسبيل التكامل، كما يصف الشيطان بأنّه عدوّ للإنسان(18)، دون أن يشير إلى الاختلاف بين الرجل والمرأة في هذين المُعيقين.
2- التساوي في القيمة بين الرجل والمرأة: ويترتّب على ما تقدّم كلّه أن تكون قيمة الرجل المتحلّي بالقيم الأخلاقيّة مساوية لقيمة المرأة المتحلّية بالفضائل عينها، والعكس صحيح أيضاً. ونحن هنا نتحدّث عن القيمة المكتسبة من خلال اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. وأمَّا الكرامة والقيمة الذاتيّة للإنسان، فقد تقدّم الحديث عنها. فالمرأة لا تقصّر عن الرجل في السبق إلى الإيمان والعمل الصالح والتقوى والهجرة والعلم. كما إنّها لا تهوي أكثر من الرجل ولا تنحطّ قيمتها عنه إذا تورّطت مثله في الكفر والشرك والنفاق. ويكفي عموم بعض الآيات وإطلاق بعضها الآخر لإثبات هذا المدّعى.
* النتيجة: تنوّع الوظيفة الخاصّة لكلّ منهما
صحيح أنّ الإسلام ينطلق في نظرته الحقوقيّة والقيمية من وحدة الهويّة والنوع، وعدم التفاضل في الخلق والوظيفة العامّة بين الذكر والأنثى، إلا أنّ هذا لا يتنافى أبداً مع وجود وظيفة خاصّة لكلّ منهما في الحياة، فثمة خصوصيّة لكلّ منهما ترتبط بالدور الخاصّ المنسجم مع التكوين الجسديّ والعقليّ والنفسيّ والروحيّ، في كلّ من الرجل والمرأة، ولا علاقة لهذه الجنبة الخاصّة بأفضليّة أحدهما على الآخر كما توهّم كثيرون، وحتّى اختلاف التشريعات بينهما، وتفصيل حقوق كلّ منهما وواجباته، فهو لحفظ خصوصيّة وتنظيم حقوق وواجبات كلّ منهما في القضايا العامة والخاصّة لا أكثر.
وإنّ التنوّع في الوظيفة الخاصّة ليس سبباً للدونيّة أو نتيجة لها، لأنّه تنوّع وظيفيّ ناشئ من أسباب موضوعيّة لها علاقة بوظيفة كلّ من الرجل والمرأة. وترتبط بضرورة تنوّع الوظائف والأدوار بين الخلق.
ومن المسلّم به –كما يقول الشهيد مطهّري (رضوان الله عليه)- أنّ الإسلام لم يضع للمرأة والرجل في جميع المجالات حقوقاً متشابهة، كما إنّه لم يضع عليهما في جميع المجالات تكاليف وعقوبات متشابهة، لكن هل معنى ذلك أنّ مجموع الحقوق التي منحها للمرأة أقلّ قيمة وأهمّية من الحقوق التي منحها للرجل؟ بالطبع، لا(19).
وهذا ما اعتبره الإمام الخامنئيّ دام ظله نظرة خاطئة، ومخالفة لنظام الخلق، حيث قال: "علينا أن نُبقي على المرأة مرأة وعلى الرجل رجلاً، وإلّا إذا بدّلنا الرجل إلى امرأة في جميع خصوصيّاته وأخلاقه وسيرته وواجباته وأعماله، وبدّلنا المرأة رجلاً، نكون قد قمنا بعمل خاطئ، ونكون قد قضينا على النظام الأتمّ والأكمل للخلق"(20).
1- انظر: (البقرة: 30 إلى 38).
2- (الذاريات: 56).
3- انظر: (الحجر: 28 و29)؛ (التين: 4)؛ (النمل: 78)؛ (الروم: 30)؛ (الشمس: 7 و8)؛ (الأحزاب: 72).
4- انظر: (النحل: 97)؛ (المجادلة: 11)؛ (الحجرات: 31)؛ (الواقعة: 10 و11)؛ (النساء: 95 و96)؛ (آل عمران: 195)؛ (الحمد: 5) (البقرة: 178).
5- (التحريم: 10 و11).
6- (المؤمنون: 10)؛ (آل عمران: 44 و45).
7- (الروم: 21).
8- (الإسراء: 23 و 24).
9- (الممتحنة: 21)؛ (التوبة: 71)؛ (آل عمران: 61)؛ (النساء: الآية 7، والآية 32).
10- (النساء: 32)؛ (النور: 31)؛ (الأحزاب: 33)؛ (النساء: 34)؛ (البقرة: 282)؛ (النساء: 11).
11- تفسير التحرير والتنوير، محمد بن طاهر بن عاشور، ج 5، ص 35.
12- تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج 3، ص 123 - 125.
13- (النساء: 1)، (الأعراف: 189).
14- (الأعراف: 189)؛ (الروم: 21).
15- (الحجر: 29)؛ (ص: 72).
16- يُستفاد هذا المعنى من توجيه الخطاب إلى الإنسان دون تقييده بالرجل والمرأة.
17- ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: 53)؛ (فاطر: 6)؛ (الزخرف: 62).
18- ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ﴾ (يوسف: 5).
19- نظام حقوق المرأة في الإسلام، مرتضى مطهري، ص104.
20- دور المرأة في الإسلام، الإمام الخامنئي، ص13، نسخة إلكترونية.