ديما جمعة فواز
أمسكت يد أختها سوسن ذات السنوات السبع وقالت بثقة: "لا تخافي حبيبتي.. سننجو ممّا نحن فيه..". هزّت الصغيرة رأسها بينما كانت فرائصها ترتعد ودموعها تسيل على خدّيها.
تقدّمت ببطء في ذاك الحقل، حيث وُضعت إشارات تحذّر من الاقتراب و"خطر الألغام" أو "القنابل العنقودية".. لم تدرك سكينة كيف وصلت سوسن إلى هذه المنطقة البعيدة من الحقل؛ ولكن أغلب الظن أنّها كانت تلاحق، كعادتها، الفراشات.. شعرَت أن حياتها كلّها تمرّ أمام عينيها بكل مواقفها السعيدة والتعيسة، ولم تستطع أن تُزيل من رأسها رنّة صوت الوالدة: "انتبهي يا سكينة لأختك فهي شقية.. لا تدعيها تغيب عن عينيك". كانت كلّ حواسها مرتكزة على أناملها الممسكة بيد الطفلة، وسرعان ما استرقت النظر إليها.. كانت الطفلة تلعب بخصلات شعرها الذهبي وتدندن.. لم تتمالك سكينة نفسها وسألتها باستنكار: "سوسن.. نحن عالقتان في حقل من الألغام..". هزّت الطفلة رأسها بلا مبالاة. استغربت ردة فعل الصغيرة التي كانت منذ لحظات تبكي بشدّة، ولكنها بقيت تركّز على وقع خطواتها بينما حملتها بين ذراعيها وضمّتها بقوّة..
سارت سكينة بتوتر شديد، ولم تنظر إلى صديقاتها اللواتي علت أصواتهنّ بالنحيب والبكاء والدعوة إلى التريّث. شعرت أنها وحيدة ومحبطة. لم يكن لديها أمل بالنجاة، وتخيّلت نفسها أشلاءً ممزّقة على سطح الأرض الوعرة.. كاد قلبها أن يقفز من بين الأضلع، ذاك القلب الذي لم يأنس يوماً بأحد ولم يشعر بالأمان قرب أحد.. اعتادت سكينة أن تعتمد على نفسها في كلّ تفاصيل حياتها، ولطالما شعرت أن الله لا يلتفت لآلامها ولا يساعدها.
وبعد دقائق بدت بطيئة ومرعبة استطاعت الفتاتان قطع الحقل بأمان.
ارتمت سكينة على الأرض بينما قفزت سوسن من بين يديها وعاودت ملاحقة الفراشات..
سارعت الصديقات إلى سكينة واحدة تقبّلها وأخرى تعانقها وتهنئنها بالسلامة. ولكنّ سكينة أبعدتهنّ عنها وركضت خلف سوسن صائحة: "سوسن! هل تدركين الخطر الذي كنّا نمر به! هل تعرفين أنّ هذه الألغام يمكن أن تقتلك!". رمقتها الصغيرة باستغراب وهمست: "أعرف.. ابن خالتي محمد استشهد حين دخل إلى حقل مماثل ولذلك ارتعبت حين بدأت صديقاتك تصحن أنه حقل ألغام.. أنا أعرف أنّني كدت أموت"، قاطعتها سكينة بحزم: "ألم تخافي؟! كيف كنت هادئة إلى هذا الحد؟! ألم تفكّري في ماما وبابا.. ألم تخافي من الموت؟!".
صاحت بها الصغيرة مبتسمة: "لا.. لأنّي أثق بك.. وأنتِ طلبتِ مني أن أهدأ.. وأنتِ لم تخذليني يوماً.. فلماذا أخاف طالما أنك حملتني بين يديك؟ أنتِ معي فلا أبالي..". هرولت الصغيرة تعاود اللعب، بينما سجدت سكينة شاكرة لله تردّد: "يا ربّ.. خوفي منذ لحظات لم يكن سببه قلّة ثقتي بك.. سامحني.. تلك الصغيرة علمتني درساً لن أنساه.. أنت معي يا رب.. أنت لم تخذلني يوماً.. فلن أبالي!".