موسى حسين صفوان
الإرادة العامة مفهوم ينتظم في المصفوفة المعرفية للأنظمة
الديمقراطية، وهو مفهوم يرتبط بنظرية "العقد الاجتماعي" التي صاغها الفيلسوف
الفرنسي "جان جاك روسو" ويشير فيه إلى إرادة المجتمع السياسي التي تقف بوجه الحاكم
الفردي المطلق، الذي جسده في زمانه النظام الملكي المستند إلى حق الملك الإلهي في
الحكم، ذلك الحق الذي دافع عنه المفكر البريطاني "هوبز".
لقد عارض الحكم (الديكتاتوري)
المطلق العديد من المفكرين وأهمهم "لوك"، و"روسو" اللذان قالا بأن السلطات الحاكمة
إنما تنبثق من ذلك الحيز من الحريات والامتيازات المتنازل عنها طوعاً من قبل
المحكومين، الذين يمتلكون الحق دائماً في سحب هذا التنازل، إذا ما تجاوز الحاكم
صلاحياته المتفق عليها ضمن إطار منظومة من القوانين والدساتير التي يتم تفويض
الصلاحية على أساسها... وهكذا فإن السيادة الحقيقية بحسب المفهوم الديمقراطي،
الليبرالي، الغربي هي للشعب عبر ما يطلق عليه الإرادة العامة. وفي التراث الإسلامي
مع ملاحظة الاختلاف في نظام الحكم، حاول الفارابي، في كتابه "إحصاء العلوم" من خلال
حديثه عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، والملكات والأخلاق والسجايا الإنسانية
التي تكوِّن مجموعة مفاهيم أهل المدينة الفاضلة، حاول تكوين ما يشبه بالذوق العام
الذي تنتج عنه إرادة عامة صالحة وفاضلة...
أما ابن خلدون، فقد درس المجتمعات من زاوية واقعية، فلاحظ إن الإرادة السياسية
مرتبطة بجملة عناصر أهمها العصبية والتي غلَّبها على العقائد، وذلك من خلال مراقبة
الواقع. والحقيقة أن الإرادة العامة، والتي تتشكل حسب ما يحدده علماء الاجتماع من
خلال مقدمات ثقافية وعقائدية وعادات وأعراف اجتماعية وحضارية تشكل ما يعرف بالذوق
العام الذي يتنامى ليشكل الرأي العام... وهذا ما يعمل عليه الغرب من خلال الدوائر
الاستعمارية والاستكبارية، من أجل التأثير بالذوق العام تمهيداً لتشكيل رأي عام
مرتبط بالأنماط الغربية والثقافات الليبرالية، مما يجمّل المشاريع الاستكبارية في
المنطقة...
وهذا ما يطلق عليه اليوم، التغريب، والهجمة الثقافية، أو الغزو الثقافي،
والذي ساهمت وسائل الاتصال وتطور أساليب العولمة في تعاظم أخطارها... على المستوى
التاريخي، ونحن نعيش الأجواء العاشورائية، فإنه من المفيد الإشارة إلى إدراك أئمة
أهل البيت عليهم السلام أهمية تكوين الرأي العام الواعي، وتوجيه الإرادة
السياسية لدى الأمة بالاتجاه الصحيح. ولهذا نجد أن أهل البيت النبوي صلوات اللَّه
عليهم من خلال مسيرتهم الجهادية اتخذوا سلسلة من الخطوات من أجل مواجهة التيارات
الثقافية المعادية التي كان بنو أمية وبهدف تمكين سلطانهم يشيعونها في أنحاء الدولة
الإسلامية. وفي الحديث المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "كما تكونوا
يولى عليكم" وفي حديث آخر: "لتأمرنَّ بالمعروف وتنهنَّ عن المنكر أو ليسلطن
اللَّه عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم". هذه الأحاديث تؤكد أهمية
الرأي العام، وتدعو النخبة المؤمنة الواعية أن تبادر للقيام بدورها، ولا تتخلى عن
واجبها حتى لا تخلو الساحة لأصحاب الأهواء والأغراض الدنيئة، فيتسلطون على رقاب
الأمة، وطبعاً لن يستجاب دعاء الخِيار الذين تخلوا عن أداء واجبهم...
وعندما اختار
اللَّه نبيه صلى الله عليه وآله إلى جواره، وكانت الأمة في بداية قيامها، استطاعت
الكثير من المفاهيم التي نهى عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأكد على عكسها
من الظهور، ومن بينها المفاهيم القبلية والعصبية والحمية التي تتنافى مع سماحة
المبادىء الإسلامية، مما أوقظ فتنة كادت أن تعصف بالأمة الناشئة لولا الحكمة التي
أظهرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام... واستمرت الأمور في تدافعها
حتى جاء زمن الإمام الحسين عليه السلام، هناك كانت الأمة في حالة من الإرادة
السياسية لا تحسد عليها، فنهض الإمام الحسين عليه السلام ليواجه أولاً وقبل كل شيء
المفاهيم السلبية التي كانت سائدة والتي تؤدي إلى تنحي خيار الأمة ومثقفيها،
وتسلُّط شرارها، لذلك نرى أن من أهم الشعارات التي طرحها الإمام الحسن عليه السلام
والتي من شأنها أن تؤدي إلى إصلاح الأمة هو رواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه
وآله: "من رأى سلطاناً جائراً... ثم لم يغير عليه... كان حقاً على اللَّه أن
يدخله مدخله...".
لقد أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يواجه الإرادة السياسية المنهزمة، ويعيد
إحياء شعلة الجهاد وطلب الحق ومواجهة الظالمين والمنحرفين... ولم يكتفِ صلوات
اللَّه عليه بتوجيه الأمة لما هو صحيح، فالحالة النفسية، والأجواء السياسية الضاغطة
كانت بحاجة إلى فعل قوي يهز وجدان الأمة، فيهدم ما استقر فيها من مفاهيم وذوق عام
ورأي عام ليخلق بدمائه ذوقاً عاماً، ورأياً عاماً جديداً. وبالتالي ينتج إرادة
سياسية إيجابية تواجه الباطل حيثما تجده، ولا تتردد أو تتكاسل تحت وطأة العوامل
النفسية مهما بلغت.