اعلم أن هذا الكتاب الشريف كما صرّح هو به كتاب الهداية،
وهادي سلوك الإنسانية ومربّي النفوس وشافي الأمراض القلبية، ومنير طريق السير إلى
الله. وبالجملة، فإن الله تبارك وتعالى لسعة رحمته على عباده أنزل هذا الكتاب
الشريف من مقام قربه وقدسه، وتنزل به على حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم
الظلماني، وسجن الطبيعة، وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لاستخلاص المسجونين في
سجن الدنيا المظلم، وخلاص المغلولين بأغلال الآمال والأماني، وإيصالهم من حضيض
النقص والضعف والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة والإنسانية، ومن مجاورة الشيطان إلى
مرافقة الملكوتيين، بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم
مقاصد أهل الله ومطالبهم، فمن هذه الجهة هذا الكتاب هو كتاب الدعوة إلى الحق
والسعادة، وبيان كيفية الوصول إلى هذا المقام، ومحتوياته إجمالاً هي ما له دخل في
هذا السير والسلوك الإلهي، أو يعين السالك والمسافر إلى الله. وعلى نحو كلّي أحد
مقاصده المهمّة: الدعوة إلى معرفة الله، وبيان المعارف الإلهية من الشؤون الذاتية
والأسمائية والصفاتية والافعالية. والأكثر في هذا المقصود هو توحيد الذات (1)
والأسماء والأفعال (2)، التي ذكر بعضها بالصراحة، وبعضها بالإشارة المستقصية.
وليعلم أن المعارف من معرفة الذات قد ذكرت في هذا الكتاب الجامع (3) الإلهي على نحو
تدركه كل طبقة على قدر استعدادها، كما أن علماء الظاهر والمحدثين والفقهاء رضوان
الله عليهم يبيّنون ويفسّرون آيات التوحيد الشريفة، وخصوصاً توحيد الأفعال على نحو
يخالف ويباين ما يفسّرها أهل المعرفة وعلماء الباطن. والكاتب يرى كلا التفسيرين
صحيحاً في محله، لأن القرآن هو شفاء الأمراض الباطنية، ويعالج كل مريض على نحو خاص،
كما أن كريمة
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾
(الحديد/ 3). وكريمة
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(النور/
35) وكريمة
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
(الزخرف/ 84) وكريمة
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ
﴾ (الحديد/ 4) وكريمة
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾
(البقرة/ 115) إلى غير ذلك في توحيد الذات والآيات الكريمة في آخر سورة
الحشر وغيرها في توحيد الصفات. وكريمة
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾
(الأنفال/17) وكريمة
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
(الفاتحة/1) وكريمة
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
(التغابن/1) في توحيد الأفعال التي تدل بعضها بوجه دقيق وبعضها بوجه أدقّ
عرفاني، هي شفاء للأمراض عند كل طبقة من طبقات علماء الظاهر والباطن على نحو معين.
ففي نفس الوقت الذي تكون الآيات الشريفة مثل آيات أول الحديد والسورة المباركة
التوحيد قد نزلت للمتعمقين في آخر الزمان حسب الحديث الشريف في الكافي فإن لأهل
الظاهر منها نصيباً كافياً، وهذا من معجزات هذا الكتاب الشريف ومن جامعيته. ومن
مقاصده الأخرى ومطالبه: الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة،
وتحصيل السعادة. وبالجملة، كيفية السير والسلوك إلى الله، وهذا المطلب الشريف منقسم
إلى شعبتين مهمتين:
إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها التقوى عن غير الحق والاعراض المطلق
عما سوى الله. وثانيهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرجة في الإقبال إلى
الحق، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدسة، وهذا من المقاصد المهمة لهذا الكتاب
الشريف، وأكثر مطالبه ترجع إلى هذا المقصد إما بلا واسطة أو مع الواسطة. ومن مقاصد
هذه الصحيفة الإلهية: قصص الأنبياء والأولياء والحكماء، وكيفية تربية الحق إيّاهم،
وتربيتهم الخلق. فإن في تلك القصص فوائد لا تحصى وتعليمات كثيرة. ومن المعارف
الإلهية والتعليمات وأنواع التربية الربوبية المذكورة والمرموزة فيها ما يحيّر
العقل. فيا سبحان الله، وله الحمد والمنّة، ففي قصة خلق آدم عليه السلام، والأمر
بسجود الملائكة، وتعليمه الأسماء وقضايا إبليس وآدم التي كُرّر ذكرها في كتاب الله
من التعليم والتربية والمعارف والمعالم لمن كان
﴿لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
﴾(ق/37) ما يحيّر الإنسان.
ولأجل هذه النكتة كُرّرت القصص
القرآنية كقصة آدم وموسى وإبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام، فليس هذا الكتاب
كتاب قصة وتاريخ؛ بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف
والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية،
وتأخذ منها الموعظة. فتارة في ضمن قصة وحكاية وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، وحيناً
بصراحة اللهجة، وحيناً بالكناية والأمثال والرموز حتى تتمكن كل من النفوس المختلفة
والقلوب المتشتتة الاستفادة منها، وحيث أن هذا الكتاب الشريف لأجل سعادة جميع
الطبقات وسلسلة البشر قاطبة، ويختلف هذا النوع الإنساني في حالات القلوب والعادات
والأخلاق والأزمنة والأمكنة، ولا يمكن أن تكون دعوته على نحو واحد، فربّ نفوس لا
تكون حاضرة لأخذ التعاليم بصراحة اللهجة وإلقاء أصل المطلب بنحو عادي، ولا تتأثر
بهذا النحو، فلا بد أن تكون دعوة هؤلاء وفق كيفية تفكيرهم، فيفهم إيّاهم المقصد،
وربَّ نفوس لا شغل لها بالقصص والحكايات والتواريخ، وإنما علاقتها بلبّ المطالب،
ولباب المقاصد، فلا يوزن هؤلاء مع الطائفة الأولى بميزان واحد.
وربّ قلوب تتناسب مع التخويف والإنذار، وقلوب لهاالالفة مع الوعد والتبشير. فلهذه
الجهة دعا الناس هذا الكتاب الشريف بالأقسام المختلفة، والفنون المتعددة، والطرق
المتشتتة، والتكرار لمثل هذا الكتاب لازم وحتمي، والدعوة والموعظة من دون تكرار
وتفنّن خارجة عن حد البلاغة، وما يتوقّع منها وهو التأثير في النفوس لا يحصل من دون
تكرار ومع هذا فإنّ ذكر القضايا في هذا الكتاب الشريف كان على نحو لا يوجب تكرارها
الكسالة في الإنسان، بل هو في كل دفعة يكرّر أصل المطلب يذكر فيها خصوصيات ولواحق
ليست في غيرها، بل في كل مرّة يركّز النظر إلى نكتة مهمة عرفانية أو أخلاقية ويطيف
المطلب حولها.
وبيان هذا المطلب يستلزم استقصاءات كاملة في القصص القرآنية، ولا يسع
هذا المختصر، وفي أمل هذا الضعيف المحتاج أن أؤلف بالتوفيق الإلهي وبالمقدار
الميسور كتاباً في خصوص القصص القرآنية، وحلّ رموزها، وكيفية التعليم والتربية
فيها، وإن كان القيام بهذا الأمر من مثل الكاتب أملاً لا ينال، وخيالاً باطلاً في
الغاية. وبالجملة، فإن ذكر قصص الأنبياء وكيفية سيرهم وسلوكهم وكيفية تربيتهم عباد
الله ومواعظهم ومجادلاتهم الحسنة من اعظم أبواب المعارف والحكم، وأعلى أبواب
السعادة والتعاليم، قد فتحها الحق تعالى وجلّ مجده على عباده، فكما أنّ لأرباب
المعرفة وأصحاب السلوك والرياضة منها حظاً وافراً ونصيباً كافياً كذلك لسواهم أيضاً
نصيب وافٍ وسهم غير محدود. فمثلاً أهل المعرفة يدركون من الكريمة الشريفة
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾
(الأنعام/76) إلى آخر الآيات كيفية سلوك إبراهيم، وسيره المعنوي، ويعلمون
طريق السلوك إلى الله، والسير إلى جنابه، وحقيقة السير الأنفسي، والسلوك المعنوي من
منتهى ظلمة الطبيعة التي عبّر عنها في ذلك المسلك بـ(جنَّ عليه الليل) إلى إلقاء
مطلق الإنيّة والأنانية، وترك النفسانية وعبادة النفس، والوصول إلى مقام القدس
والدخول في محفل الأنس
﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
(الأنعام/79) إلى آخر إشارة إلى ذلك في هذا المسلك، والآخرون يدركون منها
السير الآفاقي وكيفية تربية خليل الرحمن أمّته وتعليمه إيّاهم. وعلى هذا المنوال
سائر القصص والحكايات، مثل قصة آدم وإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى عليهم السلام
وعلاقات موسى مع الخضر عليه السلام، فإن استفادات أهل المعارف والرياضات والمجاهدات
والآخرين تختلف كل منهم عن الآخر. ويدخل في هذا القسم، أو هو مقصد مستقل حكم ومواعظ
ذات الحق المقدسة،حيث أنه بنفسه دعا العباد بلسان القدرة في كل مكان مناسب، إما إلى
المعارف الإلهية والتوحيد والتنزيه كالسورة المباركة التوحيد، وأواخر سورة الحشر
وأوائل الحديد، وسائر موارد الكتاب الشريف الإلهي، ولأصحاب القلوب والسوابق الحسنى
من هذا القسم حظوظ لا تحصى.
فمثلاً أصحاب المعارف يستفيدون من الكريمة المقدسة
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
﴾(النساء/100). قرب النافلة والفريضة، وفي نفس الحال يستفيد
السائرون الخروج بالبدن والهجرة مثلاً لمكة أو للمدينة، أو دعاهم إلى تهذيب النفوس
والرياضات الباطنية كالكريمة الشريفة
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
(الشمس/9 10) إلى غير ذلك... او دعاهم إلى العمل الصالح كما هو معلوم، أو
حذرهم عن مقابلات كل من ذلك، وتدخل في هذا القسم أيضاً أيضاً الحكم اللقمانية وحكم
سائر الأجلّة والمؤمنين المذكورة في الموارد المختلفة في هذه الصحيفة الإلهية
كقضايا أصحاب الكهف.
ومن مطالب هذه الصحيفة النورانية أحوال الكفار والجاحدين
والمخالفين للحق والحقيقة والمعاندين للأنبياء والأولياء عليهم السلام، وبيان كيفية
عواقب أمورهم وكيفية بوارهم وهلاكهم كقضايا فرعون وقارون ونمرود وشدّاد وأصحاب
الفيل وغيرهم من الكفرة والفجرة. ففي كل واحدة منها مواعظ وحكم، بل معارف لأهله.
ويدخل في هذا القسم قضايا إبليس الملعون، ويدخل في هذا القسم أيضاً أو أنه قسم
مستقل قضايا غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله التي فيها أيضاً مطالب شريفة
مذكورة، منها كيفية مجاهدات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله لإيقاظ المسلمين من
نوم الغفلة، وبعثهم للمجاهدة في سبيل الله، وتنفيذ كلمة الحق وإماتة الباطل.
ومن مطالب القرآن الشريف بيان قوانين ظاهر الشريعة والآداب والسنن الإلهية، وقد
ذكرت كلّيّاتها ومهماتها في هذا الكتاب النوراني والعمدة في هذا القسم الدعوة إلى
أصول المطالب وضوابطها مثل باب الصلاة والزكاة والخمس والحج والصوم والجهاد والنكاح
والإرث والقصاص والحدود والتجارة وأمثالها. وحيث أن هذا القسم وهو علم ظاهر الشريعة
عامّ المنفعة ومجعول لجميع الطبقات من حيث تعمير الدنيا والآخرة، وتستفيد كل طبقات
الناس منه بمقدارها، فالدعوة إليه كثيرة لهذه الجهة، وفي الأحاديث الشريفة والأخبار
أيضاً خصوصياته وتفاصيله إلى حدّ وافر، وتصانيف علماء الشريعة في هذا القسم أكثر
وأعلى من سائر الأقسام. ومن مطالب القرآن الشريف: أحوال المعاد والبراهين لإثباته،
وكيفية العذاب والعقاب والجزاء والثواب، وتفاصيل الجنة والنار والتعذيب والتنعيم.
وقد ذكرت في هذا القسم حالات أهل السعادة ودرجاتهم من أهل المعرفة والمقربين، ومن
أهل الرياضة والسالكين، ومن أهل العبادة والناسكين. وكذلك حالات أهل الشقاوة
ودرجاتهم من الكفار والمحجوبين والمنافقين والجاحدين وأهل المعصية والفاسقين.
ولكن
ما كان أكثر فائدة لحال العامة كان أكثر ذكراً وبصراحة اللهجة، وما كان مفيداً
لطبقة خاصة؛ فقد ذكر بطريق الرمز والإشارة مثل
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر﴾
(التوبة/72)، وآيات لقاء الله لتلك الطائفة، ومثل
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
(المطففين/15) للطائفة الأخرى. وقد ذكر في هذا القسم أي في قسم تفصيل المعاد
والرجوع إلى الله معارف لا تحصى، وأسرارٌ صعبة مستصعبة لا يمكن الاطّلاع على
كيفيّتها إلا بالسلوك البرهاني أو النور العرفاني. لا ومن مطالب هذه الصحيفة
الإلهية كيفية الاحتجاجات والبراهين التي ذكرها الله وهي إما أقامْتها الذات
المقدسة الحق تعالى بنفسه لإثبات المطالب الحقة والمعارف الإلهية مثل الاحتجاج
لإثبات الحق والتوحيد والتنزيه والعلم والقدرة وسائر الأوصاف الكمالية. وقد يوجد في
هذا القسم براهين دقيقة يستفيد أهل المعرفة منها استفادة كاملة مثل
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾
(آل عمران/18) وقد توجد براهين يستفيد الحكماء والعلماء منها على نحو،
ويستفيد أهل الظاهر وعامة الناس على نحو آخر، ككريمة
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾
(الأنبياء/22) ومثل كريمة
﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾
(المؤمنون/91) ومثل آيات أول سورة الحديد والسورة المباركة التوحيد وغيرها،
ومثل الاحتجاج على إثبات المعاد ورجوع الأرواح وإنشاء النشأة الأخرى، والاحتجاج على
إثبات ملائكة الله والأنبياء العظام الموجودة في موارد مختلفة من هذا الكتاب
الشريف. هذه حال احتجاجات نفس الذات المقدسة، وأما أن الحق تعالى نقل براهين
الأنبياء والعلماء على إثبات المعارف مثل احتجاجات خليل الرحمن سلام الله عليه
وغيره. هذه مهمّات مطالب هذا الكتاب... وإلا فالمطالب المتفرقة الأخرى أيضاً موجودة
ويستلزم إحصاؤها وقتاً كافياً.
(1) التوحيد الذاتي: هو أن ذاته واحد.
(2) التوحيد الفعلي: هو أن ترى بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى.
(3) الكتاب الجامع: أن المقصود من الكتاب الجامع نفس الإنسان من جهة أنها جامعة
لجميع مراتب الكمالات التي دونها وأنها العالم الصغير المشابه للعالم الكبير.