الشيخ محمد باقر كجك
هل يمكن لنا أن نكون من الصفوة والنُّخبة التي تحدّث عنها
الله تعالى كثيراً في القرآن الكريم؟ أم إنَّ البوَّابة قد أُغلقت بعد أن دخلها
مجموعةٌ محدّدة من البشر؟
* من هم الذين اصطفاهم الله تعالى؟
في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ للّذين اصطفاهم الله من بين البشر. والذي يقرأ
الآيات الكريمة قد يفهم منها أنّ القرآن حصر هذه المسألة بمجموعةٍ معيّنةٍ من
الناس، ثم تُحرم البشرية من هذا الامتياز، إلى آخر الدهر. ولكن لو تتبَّعنا الموارد
التي أشار فيها القرآن الكريم إلى عمليّة الاصطفاء والاستخلاص، لوجدنا أنَّها
تتوجّه إلى فئات أربع متمايزة:
1- أفراد: تارةً يميّز الله تعالى أفراداً مخصوصين ويصطفيهم، كالملك طالوت
مثلاً؛ إذ يقول عنه:
﴿إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طَالُوتَ مَلِكًا... قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾(البقرة: 247).
2- جماعات: وتارةً يميّز جماعات خاصة من البشر، فيجتبيهم ويصطفيهم. قال
تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ
نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا
وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا﴾ (مريم: 85).
3- أمم: وأخرى يميِّز أمماً مصطفاةً، كالأمة الإسلامية، كما في قوله تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللهِ﴾ (آل عمران: 110).
4- بنو إسرائيل: وأخرى ذكر القرآن أنّ الله اصطفى بني إسرائيل في
فترة من الزمن، حيث قال:
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 47).
وهكذا؛ فلو توقفنا عند هذه النماذج من الاستخلاص والاصطفاء للناس، لظننّا أنّ
البوابة، إذن، مقفلةٌ في وجوهنا. ولكن، القرآن الكريم يفتح أمامنا بوابةً كبرى
للدّخول، وذلك عبر تحديد مناهجَ، وأساليب، وطرقٍ تدفع بالفرد، بل بالأمّة كلّها
لتكون مصطفاة. فما هي هذه المناهج؟
* ما هي المناهج المصطفاة؟
يذكر القرآن الكريم منهجاً مميّزاً وهو منهج "المستضعفين"، الذين يكون ظاهرهم في
هذه الدّنيا "الاستضعاف"، وباطنهم عند الله "القوّة"، وبالتّالي يعِدُ الله تعالى
أصحابَه بالنَّصر والظَّفر والاصطفاء النّهائي لهم، فيقول عنهم:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، وذلك في مقابل منهج الاستكبار:
﴿إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ (الأعراف: 40).
فمن يريد أن يصل إلى مرتبة الصفوة، عليه أن يحدد موقفه بين المستكبرين أو بين
المستضعفين. فإنْ كان من المستضعَفين فإنّه من المحتمل جدّاً أن يكون من ضمن الذين
يرثون الأرض، وأن يكون من جماعة الأئمّة الوارثين!
* ما هي علامات المصطَفين؟
هناك شروط عديدة، بل يمكن القول هي علامات لخطّ المستضعفين الذين سوف يصبحون صفوة
الأرض، ومن هذه الشروط:
1 - العبودية والإخلاص: العبودية الفردية والإخلاص لله تعالى
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ (الزمر: 2).
2 - اتّباع الشريعة:
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85)،
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء: 14).
3 - اتباع الرسول:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾
(آل عمران: 31).
4 - تهذيب النفس:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
(الشمس: 7-8).
* ما هي علامات المنهج المصطفى؟
عندما نبحث عن المنهج الذي يدفع بالمستضعفين ليكونوا من أئمة الأرض، فإننا نقف عند
علامات وعلينا أن نقوم بمحاولة تطبيقها على المستويَين الفردي والاجتماعي. فمن
علامات هذا المنهج:
1- أنّه منهج خالص لله وحده:
﴿أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: 3).
2- أنّه قائم على الحرية:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256).
3- أنّه ينطلق من العلم والمعرفة:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9).
4- أنّه يفتح آفاق عالم الغيب والشهادة أمام الإنسان:
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ
فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآَتٍ﴾ (العنكبوت: 5).
5- أنه يريد إنشاء حياة أرضيّة هنيّة:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 32).
6- أنّه يدعو إلى تقبّل الآخرين:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
7- أنّه دين السلام:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
8- أنه يدعو إلى احترام الفرد لنفسه، من خلال اهتمامه بصلاح عمله:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (الجاثية: 15).
* والسؤال الرئيس يبقى: هل نستطيع أن نكون مِنَ الصَّفوة؟
يفتح الله سبحانه الباب واسعاً أمام النّاس لكي يدخلوا إلى حلقة الاصطفاء، بل هنالك
وعدٌ إلهي بتحقيق هذا الأمر، إذ يقول الله تعالى:
﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
فتلك الفئة القليلة المستضعفة، التي تدافع عن منهجها ودينها وسلوكها سيتم اصطفاؤها
لكي تكون هي الفئة النورانيّة التي تسير أمام الشعوب والأمم حاملة لواء التوحيد،
فهي إذاً، "المجموعةُ الإمام"!
أ- مجموعة عالمة: وهذه المجموعة من الصَّفوة "المجموعة الإمام"، تعتمد على
مفاتيح أساسيّة في تحقيقها لهذا الهدف؛ ومنها أنها "مجموعةٌ عالمة". لأنّ مواجهة
حالة الاستكبار العالمي، الملقاة على عاتق المستضعفين، لا يمكن أن تلاقي النصر
والظفر إلّا إذا كانت المواجهة قائمة على المعرفة. وليس أيّ نوع من المعرفة، بل
المعرفة التي تستطيع أن تميّز أيّ الجهات ينبغي الحذر والخوف منها، فهل تخاف وتخشى
المستكبرين أم تخشى الله دون غيره؟ ويجيب القرآن الكريم بأنه:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28).
ب- مجموعة تتمتّع بالإرادة: وهي العنصر الآخر لهذه المجموعة "الإرادة"، إذ
ينبني على المعرفة وجود إرادة حازمة تصرف هموم هذه المجموعة النورانيّة عن الاهتمام
بأي شيء آخر غير التوجّه بنور المُقَل إلّا إلى صاحب النور الأسمى. فلا تغترّ بأي
مظهر من مظاهر العظمة الماديّة والإغراء الغرائزيّ والفكريّ، لأنّها تعلم أنَّ
الحياة الحقيقيّة لا توجد إلّا عند نبع الحياة السّرمدية، ولذلك يقول القرآن
الكريم:
﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (النجم: 29).
إذاً، ومن خلال هذه الإطلالة المكثّفة والغنيّة بالشواهد القرآنية، نستطيع أن نقول
إنّ بوابة الاصطفاء الربَّانيّ لا تزال مفتوحةً إلى حينٍ، وبعدها يغلقُ الكتاب
ويختَم على فم القدر.
بالتالي، على كل ذي عشقٍ وشوقٍ أن يسارع إلى النظر في شروط الالتحاق والتأهُّب
والسَّعي في مضمار العاشقين، عسى أن يسمع كلمة السرّ الخفية:
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 41).