آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
أشرنا في حلقة سابقة إلى أنّ الذكر يعني الالتفات، من
جديد، إلى الشيء الذي يمتلك الإنسان معرفة به ثم غَفِلَ عنه. وهذا الذكر، الذي يأتي
بعد الغفلة، هو من أعمال القلب الخاصة. والمقصود من القلب في القرآن والروايات، وفي
العرف، أنّه قوة مركز الإدراكات والعواطف والأحاسيس الإنسانيّة.
* ارتباط الذكر بالعواطف والأحاسيس
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاته: "إلهي، فألهمنا ذكرك في الخلاء
والملاء، والليل والنهار، والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنسنا بالذكر
الخفيّ، واستعملنا بالعمل الذكيّ، والسعي المرضيّ، وجازنا بالميزان الوفي"
قد تتحوّل حال التذكّر عند الإنسان إلى حالة غير اختيارية، فلا يتمكّن الإنسان من
نسيان ما يريد أن ينساه فيتذكّره من تلقاء نفسه. بمعنى: عندما يمتلك الإنسان
تعلّقاً قوياً ببعض معلوماته، أو عندما يشعر بألم وانزعاج شديدين بسبب التعلّق بها،
فإنّ هذه المحبّة والكراهية الشديدتين تؤدّيان إلى بقاء ذاك الشيء في الذهن فلا
يُنْسى.
إنّ هذه الحالة غير اختيارية تقريباً، إذ يعاني الإنسان المشقّات لتذكّر معلوماته
في غير هاتين الحالتين، فإذا كان تعلّقنا ومحبّتنا أو كرهنا للشيء عادياً، فقد
ننساه بسرعة. والحلّ، هو بالتمرين والالتفات المتكرّر ليبقى في ذهننا.
* لماذا ننسى ذكر الله؟
يتّضح، ممّا تقدّم، أنّ إيماننا ومحبّتنا لله تعالى قليلان وهذا ما يؤدّي إلى
نسياننا له تعالى. وبالتالي، الاهتمام والاشتغال بالأمور الدنيويّة واللذائذ
الماديّة، ممّا يساهم في نسياننا لله. في هذه الحالة يتمكّن الإنسان من إعادة إحياء
ذكر الله بمشقّة، وبالعمل. وذلك من خلال إيجاد أرضيات وعوامل الالتفات إلى الله
تعالى. ولكن الأشخاص أصحاب الإيمان والمحبّة الشديدين لله تعالى، هم في ذكر الله
دائماً، لا بل لا يمكن لشيء أن يجعلهم ساهين عنه.
وإذا شمل لطف الله الإنسان فوفّقه لتقوية إيمانه ومحبّته لله، عند ذلك، يكون ذاكراً
لله باستمرار، ولا يتعب من ذكره، لا بل يشعر باللذة من ذلك.
مشكلتنا أنّ قلوبنا امتلأت تعلّقاً بالدنيا، وبمحبة الآخرين، بشكل مستقلّ، فنسينا
ذكر الله. وقد قدَّم الشرع المقدّس، وأساتذة الأخلاق طرقاً وبرامج للتخلص من هذه
الغفلة، والعودة إلى ذكر الله. وفي هذه الحال يشعر الإنسان بلذّة ذكر الله فيحيا
قلبه.
* كيف لا ننسى ذكر الله؟
من أهم وأبرز البرامج التي تعيد إحياء ذكر الله: الصلاة. ومن هنا، يقول الله تعالى
حول الدور الأساسيّ والحياتيّ للصلاة في ذكر الله:
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14). قد يمكن الاستفادة من الآية الشريفة، والقول إنّ
حكمة تشريع الصلاة هي وسيلة لتذكير الإنسان بالله، فلو لم يوجب الله الصلاة، فقد
تمضي الأيام ولا نتذكّر الله، بل ننساه.
ولعلّ من جملة أسرار التأكيد على أداء الصلاة في أول الوقت، أن يعتاد الإنسان على
ذكر الله عند وقت الصلاة. فينظّم برامجه اليوميّة بحيث لا تمنع صلاته، وينظّم
برنامجه اليوميّ بحيث يكون جاهزاً للصلاة أوّل وقتها. وهذا التنظيم يدفع الإنسان
طوال النهار لذكر الله. وعندما يتذكّر الإنسان الله دائماً، فإنّه يستأنس به؛ لأنّ
من جملة خصائص الإنسان أنّه يستأنس بالشخص الذي يرتبط به باستمرار، ويعتاد عليه.
* حتّى يكون الذكر مَلَكة وروحاً
إنّ هذا الطبع الإنسانيّ هو، بحدّ ذاته، عامل حياتيّ ومؤثّر على مستوى تطوّر
الإنسان في الأعمال. فلو لم يستفد الإنسان من هذه الطبيعة، وإذا لم تظهر فيه
العادة، تصبح الأعمال صعبة له وتؤدّي إلى الإرهاق. وأمّا في مجال المعرفة، وبما أنّ
أكثر المعارف والمعلومات تصبح مَلَكَة وعادة للإنسان، عند ذلك يصبح التعلّم سهلاً
له.
مثال ذلك، بما أنّ أذكار الصلاة قد أصبحت مَلَكة لنا وعادة، فإننا نقرأ تلك الأذكار
دون تأمّل ودون توقّف، وإلّا كانت صعبة لنا. وكان ينبغي عندما نقرأ
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
من سورة الحمد، أن نتوقّف مدة لنتذكّر الآيات الأخرى، وبالتالي سيحتاج الأمر إلى
وقت طويل لتذكّر واجبات وأذكار الصلاة. طبعاً، عندما تصبح الصلاة والعبادات عادة
ومَلَكة لنا ففي ذلك آفات أخرى؛ فالإنسان يأتي بالصلاة أو العبادات الأخرى، بحسب
العادة، دون توجّه فتصبح صلاته وعبادته فاقدة للروح، وخالية من الالتفات والتوجّه
إلى الله تعالى ودون تأثير حقيقيّ؛ من هنا يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا
تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك،
ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته"(1).
إذاً، يجب أن نسعى لنأتي بصلاتنا وبعبادتنا بحضور قلب وتوجّه. وكما يجب أن نهتم
بالكمية، يجب أن نهتم أيضاً بكيفيتها. مما لا شك فيه أن محبّة الله وتقوية تلك
المحبّة، يلعبان دوراً هاماً في التوجّه إلى الله في العبادات والذكر. ومن هنا،
فإنّ أولياء الله المليئة قلوبهم بعشق الله ومحبته، كانوا يعبدون الله بكلّ وجودهم
بحيث كانت أحوالهم تبعث على التعجّب، عند الأشخاص العاديين.
* من عبادات السالكين: الشيخ الأصفهاني
من جملة هذه الشخصيات الكبيرة المرحوم آية الله الحاج الشيخ "محمد حسين الغروي
الأصفهاني" الذي كان يخصّص عدّة ساعات من وقته للعبادة والإتيان بالمستحبّات، من
أمثال: زيارة عاشوراء، وصلاة جعفر الطيّار، كلّ يوم. وذلك إلى جانب برنامجه العلميّ
والبحثيّ، وإلى جانب تدريس العلوم الدينيّة.
يقول المرحوم "آية الله بهجت" وهو من تلامذة المرحوم "الأصفهاني"، وقد عاش إلى
جانبه سنوات، وكانت تربطه به علاقة حميمة وقريبة: "إنّ من يشاهد البرنامج العباديّ
للمرحوم الأصفهاني، يظنّ أنّه ليس من أصحاب الدرس والبحث، وأنّه من أهل العبادة
فقط". وينقل عن المرحوم الأصفهاني قوله: "طلبت من الله تعالى أن لا أترك هذه
الأعمال العبادية حتّى آخر يوم من عمري". وفي النهاية، هكذا كان، ففي آخر أيام
حياته وبعد أن أتى بكافّة عباداته وصلّى نوافل الليل، رحل عن الدنيا وهو في سجوده.
كما إنّ العارف الكبير الإمام "الخميني" قدس سره كان يتلو أبياتاً من الشعر، وهو في
أوج السلوك المعنويّ حيث كان قلبه مغموراً بعشق ومحبّة المعشوق، مما يحكي عن لذّة
الخلوة والأنس بالمعبود.
وكان المرحوم الشيخ "غلام رضا اليزدي" يتلو أبياتاً شعرية ومن ثم يقرأ الآية
الشريفة:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ﴾ (السجدة: 16).
نعم، عباد الله السالكون قد اعتادوا الرياضة والتمرين فأخرجوا التمنّيات من قلوبهم
وأحيوها بذكر الله، فسلب عشق الله ومحبّته النومَ من أعينهم وأضْحوا باكِين
باستمرار لفراق الحبيب.
* الله تعالى وإلهام ذكره للعباد
إنّ الأشخاص أهل عبودية الله والذاكرين له باستمرار، إذا وجدت أرضية الغفلة وإذا
وجد ما يؤدّي إلى حرف أذهانهم عن ذكر الله تعالى، عند ذلك يهيّئ الله تعالى الوسيلة
لإخراجهم من الغفلة ويوجّه انتباههم إليه. طبعاً، الأشخاص الذين تكون علاقتهم بالله
قوية، تكفيهم الإشارة عند الغفلة لتعود قلوبهم إلى الله، والذين تكون علاقتهم بالله
أضعف، يهيّئ الله لهم الوسائل الأكثر تأثيراً أمثال: المرض والفقر، لأنّ المرض
والفقر يذكّران بالله وعليه يخرجون من الغفلة. على كلّ الأحوال، عندما يكون الإنسان
من أهل عبودية الله وطاعته، فإنّ الله يلهم قلبه الذكر حتّى لو أصيب بالغفلة وكان
غير ملتفت لذكر الله. وعلى هذا الأساس قال الإمام عليه السلام في مناجاته:
"إلهي، فألهمنا ذكرك في الخلاء والملاء، والليل والنهار...".
* الأنس بالذكر
يحصل الأنس بالذكر عندما يتوجّه الإنسان من أعماق قلبه إلى الله، وعندما يتعلّق
بالله في الخلوة، وبعيداً عن أعين الآخرين. عندما يستأنس الإنسان بالله من خلال
المداومة والممارسة والتمرّن على الذكر، فإنه ينزعج إذا نسيَ الله لحظة واحدة فيشعر
بالضياع. إنّ الذي لا يستأنس بذكر الله عليه أن يوجد الاستعداد الكافي في نفسه، ولو
للحظات قليلة، ليردّد بعض الأذكار أمثال: سبحان الله، الله أكبر والحمد لله. ولكن
عندما يستأنس هذا الشخص بذكر الله، فهو لن يتمكّن من تركه للحظة واحدة.
1- الكافي، الكليني، ج2، ص105.