نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع معاوية: مواجه الغدر والمكر


السيد علي مرتضى

لقد عبّرت سياسة الإمام عليّ عليه السلام عن جميع القيم السياسيّة الخيّرة التي أعلنها الإسلام، فهي لا تقرّر الغدر ولا المكر ولا الخداع، ولا تؤمن بأيّ وسيلة من وسائل النفاق السياسيّ، وإن توقّف عليها نجاح مؤقّت أو فوز محدّد. وهذه السياسة جليّة في تعامل الإمام عليّ عليه السلام مع معاوية، الذي لم تكن نواياه خافيةً على الإمام عليه السلام، ولا مكائده كذلك.

في هذا المقال سنبيّن، بشكل موجز، كيف استخدم أمير المؤمنين عليه السلام كلّ الأساليب الإنسانيّة والعقلائيّة لبيان حقيقة معاوية وكشف ألاعيبه وأكاذيبه، وليعيد الحقّ إلى نصابه. فشاءت الأقدار أن يترجّل ذلك الفارس عن قبّة الفلك ليبيّن لسفاف العقول انحراف القافلة عن عَلَمِ الوصول.

* حقائق للتاريخ
لم يخطُ عليه السلام أيّ خطوة قبل أن يستنفد كلّ الطرق الدبلوماسية، ويستخدم شتّى الأساليب السياسية، كلّ ذلك كي لا يبقى لذي مقالٍ مقال، ولا لذي استفسار سؤال، قبل أن تقرع الحرب طبولها، ليختم معركة بدأت منذ تسلّمه الحكم حتّى لحظة استشهاده ببيان حقيقة معاوية بن أبي سفيان، ليعلم التاريخ أنّه ثار على إمام زمانه وكلّ من قتل فبسببه وأنه ضلّ وأضلّ.

أولاً: طلب البيعة من معاوية:
لقد أصرَّ عليه السلام على الاعتذار عن عدم قبول البيعة، وكان جادّاً في ذلك كلّ الجدّ، إلا أنّه لم يجد عن قبولها بدّاً، ولا عن طلّابها رادّاً، فبايع الناس إلّا القليل ممّن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. والحديث في هذا الصدد طويل يعلمه معاوية حقّ اليقين، لذلك كتب إليه أنّ البيعة قد تحقّقت، فليس لك غير المبايعة: "مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي(1) فِيكُمْ وَإِعْرَاضِي عَنْكُمْ حَتَّى كَانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا دَفْعَ لَهُ... فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ وَأَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَالسَّلَامُ"(2).

وهذا الكلام منه عليه السلام لا توهين فيه ولا تعريض ولا تجييش، لأنّه عليه السلام أخذ البيعة منه فقط دون الخوض في ما سوى ذلك. لكن عندما يرفض معاوية البيعة، ولا يمتثل لأوامر الحاكم الإسلاميّ، يلجأ الإمام عليه السلام لخطوة إرسال المفاوضين.

ثانياً: إرسال المفاوضين:
أرسل الإمام عليه السلام إليه جرير بن عبد الله البجلي، وحدّد له الأسلوب الحازم في التعاطي مع معاوية والموقف الجازم الذي لا ترديد فيه، فلا إطناب مملّ، ولا اختصار مخلّ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ وَخُذْهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ(3) أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ(4) فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَإِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَالسَّلَامُ"(5).

ثالثاً: تكتيك التفاوض قبل الحرب:
تعامل الإمام بقمة الرأفة الإنسانية مع أتباع معاوية، فهو العالِم بأنّهم مُضَلَّلون، فأراد عليه السلام هدايتهم وإعادتهم لجادّة الحقّ، فأرسل جريراً ليفاوضهم، وفي الوقت نفسه، حافظ على الهدف السامي واستفاد من وجود جرير في الشام ليهيئ أصحابه لعدم وقوعهم في خديعة معاوية من جهة ثانية، يقول عليه السلام: "إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ، وَلَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً، وَالرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الْأَنَاةِ(6) فَأَرْوِدُوا وَلَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ، وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَعَيْنَهُ وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم"(7).

فالإمام عليه السلام أرسل جريراً إلى معاوية، ليعظه ويحذِّره من الشقاق والفتنة، ويطلب منه أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، ولكنَّ معاوية أسرف وماطل في جواب جرير، ولفَّ ودار. ولمَّا استبطأ أصحاب الإمام جريراً أشاروا عليه بالنهوض لحرب أهل الشام، فقال عليه السلام: لا أبادر الحرب إلّا بعد إلقاء الحجة وقطع المعذرة، ولو سُقتُ الجيوش إلى أهل الشام ورسولي عندهم، لم تقم الحجَّةُ عليهم، وسوف يصل الخبر إلى معاوية فيستفيد من ذلك.

ثمَّ إنَّه عليه السلام كان قد ضرب وقتاً لرجوع جرير، بحيث لا يتأخَّر عنه إلّا لطارئ، كخداع معاوية وتسويفه، فالعدوّ عندما يكون ماكراً لا يُرخى له زمام الوقت، أو عصيان جرير ومخالفته، لأنَّه إنْ لم ينجح في مهمَّته عليه أنْ يرجع على الفور. وطالما لم يتبيَّن شيء من ذلك، فالرأي، والحال هذه، هو التروّي والصبر والرفق والإمهال. ولكن، لا بأس أن تتهيَّأوا للحرب، وتعدّوا لها العدَّة، حتّى إذا دعت الحاجة كنتم على استعدادٍ.

وبعد ذلك يضيف عليه السلام أنّه قد تأمّل مليَّاً في موقف معاوية ووضعِه، ودرَسَه بدقةٍ وإمعانٍ، من شتَّى جهاته، فوجد عليه السلام أنَّ معاوية لن يحيد أبداً عن الباطل، ولن يستجيب لدعوة الحقِّ إلَّا بالقوة، فما عليه عليه السلام سوى الإعلان عن قتال معاوية إلى درجة أنَّ تركه كفرٌ بما جاء محمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم؛ أي أنّ الأمر بقتال معاوية يرتبط بالعقيدة، فمستوى ترك قتاله بمستوى ترك الإيمان والتوحيد.

رابعاً: محاججة معاوية:
تبدأ المحاججة بقاعدة ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فالبيعة التي تعقد على طريقة الخلفاء السابقين، والتي التزم بها معاوية فيما مضى، تلزمه هذه المرّة، إذ اجتمع الأنصار والمهاجرون على الإمام عليّ عليه السلام، فلماذا يرفض معاوية البيعة؟ فإن كان معاوية من القائلين بالبيعة فقد بايع الناس عليّاً، وإن كان من القائلين بالشورى فقد اجتمعوا على عليّ عليه السلام فأيّ حجّة تبقى لدى معاوية؟

وأمّا محاولة معاوية تأجيج الناس على عليّ وتحريضهم بأنه من قتل عثمان، فقد أجابه عليه السلام بالطريقة العقلية، وبحسب المعطيات الموجودة أنّه من المستحيل على عليّ عليه السلام الذي كان في عزلة أن يقتل عثمان. يقول عليه السلام: "إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ وَإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلهِ رِضاً فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَلَّاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى وَلَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ وَالسَّلَامُ"(8).

خامساً: الاستعداد للحرب:
بعد أن وصل خبر الصفقة التجاريّة بين معاوية وعمرو بن العاص، أعلن عليه السلام للملأ أنّ الحرب واقعة، وأنّ مبرراتها أصبحت جاهزة، فأخذ بوصف هذه البيعة والبائع والمبتاع فقال عليه السلام: "ولَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَناً فَلَا ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ وخَزِيَتْ أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وأَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وعَلَا سَنَاهَا واسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ"(9).

ويظهر من كلام شرّاح نهج البلاغة الاتّفاق على أنّ هذا الكلام ورد بحقّ معاوية وعمرو بن العاص وما جرى بينهما من اتفاق على المصالح التي جمعتهما بوجه عليّ عليه السلام، فإنّ الإمام عليه السلام في هذا الكلام يضع الأمور التي حصلت حينها في موقعها الطبيعيّ بعيداً عن أيّ ادّعاء أو تلفيق أو افتراء. فعمرو بن العاص لم يبايع معاوية إلّا بعد أن أخذ ثمن البيعة، فالمسألة إذاً صفقة تجارية، وليست بيعة بالمفهوم الدينيّ، لأنّ البيعة الدينية لا يقابلها ثمن. ولهذا نجد التفات الإمام عليه السلام في الخطاب من البيعة إلى البيع مشيراً إلى قناعته عليه السلام بأنّ ما حصل هو صفقة تجارية وليس مبايعة.

أما الاستعداد للحرب فمن اللحظة التي اطلع فيها الإمام عليه السلام على وقوع هذه الصفقة أيقن، بحسب الظروف الموضوعية، أنّ الحرب قادمة، لذا طلب من أصحابه الاستعداد للحرب وإعداد العدّة لها، لأنّه عليه السلام كان على علم بنواياهم ومقاصدهم. ولعلّ إشارته الواضحة إلى أنّه "شبَّ لظاها وعلا سناها" دليل على قرب الوقوع والتحقق.

سادساً: سياسة فضح معاوية أمام الملأ:
أمّا سياسته عليه السلام في فضح معاوية فنوجزها بالآتي:

أ- بيان سوء رأيه: "أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَرِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ(10)، نَمَّقْتَهَا بِضَلَالِكَ وَأَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ، وَكِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ وَلَا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ، قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ وَقَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ فَهَجَرَ لَاغِطاً وَضَلَّ خَابِطاً".

ب- بيان زيفه: فمعاوية في دينه واضح الفساد ويظهر عليه ذلك في دنياه أيضاً، فلا بدَّ من بيان ذلك ليفتضح أمره بين الناس: "فَإِنَّ الْبَغْيَ وَالزُّورَ يُوتِغَانِ(11) الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَيُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ وَقَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَأَوَّلوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ... وَقَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَلَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ وَالسَّلَامُ"(12).
ج- بيان تاريخه وحقيقته وجبنه: يقول عليه السلام: "وَإِلَّا تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَوُلَاةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا شَرَفٍ بَاسِقٍ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ الْأُمْنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَلَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ"(13).

د- توضيح حقيقته لأهل الأمصار: يقول عليه السلام: "وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ وَدَعْوَتَنَا فِي الْإِسْلَامِ وَاحِدَةٌ وَلَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِ مَا لَا يُدْرَكُ الْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَتَسْكِينِ الْعَامَّةِ حَتَّى يَشْتَدَّ الْأَمْرُ وَيَسْتَجْمِعَ فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ وَرَكَدَتْ وَوَقَدَتْ نِيرَانُهَا وَحَمِشَتْ(14) فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا(15) وَإِيَّاهُمْ وَوَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَفِيهِمْ أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا وَسَارَعْنَاهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَمَنْ لَجَّ وَتَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ(16) الَّذِي رَانَ(17) اللهُ عَلَى قَلْبِهِ وَصَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ"(18).

فالإمام كتب، في كتابه هذا، إلى الأمصار من أهل دولته يخبرهم بما حدث في صفّين، وأنّه في الساعة التي التقى الجمعان كان ظاهر حال أهل الشام أنّهم مسلمون، وأنّه لا اختلاف بينهم في الربّ ولا في النبيّ ولا في الدعوة، وظاهر الاختلاف بينهم وبين الإمام وأصحابه ينحصر في دم عثمان لا في شيء من الدين وأصوله... ولا شكّ في أنّ الإمام بريء من دم عثمان، وقد تقدّمت عدة محاججات من الإمام عليه السلام تثبت براءته من ذلك، ومعاوية على علم بذلك، ولكنه يكابر لحاجة في نفسه.

الخلاصة
طلب الإمام البيعة ثمّ فاوض ولمّا علم باستعداد معاوية للحرب بدأ بالاستعداد مبيّناً حقيقة معاوية وأطماعه وخدعه، عبر المحاججة والمكاتبة والبيان للأمصار وللملأ ما يريد معاوية بعد أن بيَّن الإمام الفرق بين الفريقين، وأن الخلاف على المطالبة بدم عثمان، وبين رأي الإمام من الأول ورأيهم ودعواهم، ثم إصرارهم على الحرب والقتال، ثم عودتهم عن الحرب إلى ما دعوناهم إليه، بهذا النحو يثبت الإمام صوابية منطقه، وبطلان منطقهم، وأنَّهم على ضلال، وفي النهاية من يعرف هذا الأمر ليس له سوى الدخول في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وإلا فهو من الذين ران على قلوبهم.


1- أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية في العذر.
2- نهج البلاغة، الكتاب 75.
3- من الإجلاء وهو الإخراج من الوطن قهراً.
4- مهينة مذلّة.
5- نهج البلاغة، الكتاب 08.
6- تَأنّى تثبّت.
7- نهج البلاغة، الكتاب 43.
8- (م.ن)، الكتاب 06.
9- (م.ن)، الخطبة 65.
10- مزيّنة.
11- الوتغ الهلاك.
12- نهج البلاغة، الكتاب 48.
13- (م.ن)، الكتاب 10.
14- اشتدّت.
15- عضتنا بأضراسها.
16- المقلوب.
17- غطى.
18- نهج البلاغة، الكتاب 58.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع