نسرين إدريس قازان
اسم الأم: بهيجة فوعاني
محل وتاريخ الولادة: برعشيت 22/2/1983م
الوضع الاجتماعي: متأهل وله ولدان.
رقم السجل: 38
تاريخ الاستشهاد: 19/5/2013م.
كم كانت طويلةً ساعات العذاب التي خُيّل للحاج يوسف أنها
لن تنتهي، وهو يحمل طفله الصغير خليلاً بين يديه متنقلاً من مستشفى إلى مستشفى،
متوسّلاً أن يحاولوا إنقاذ حياته، بعد أن التهمت نيران مدفأة المنزل جسده النحيل!
لكنّ خطورة الإصابة كانت تُقفل الأبواب في وجهه حيث قال الأطباء: "إنّ حياته ساعات
معدودات".
* الأمل بالله
لكن الله تعالى شاء له وقتاً معلوماً، فوصل به والده إلى مستشفى الجامعة
الأميركيّة. وبعد بحثٍ طويل عن طبيب يتولّى أمر معالجته، تمّ استدعاء طبيب، لم يعطِ
القلوب التي أحاطت بخليل من أهل وجيران الكثير من الأمل، ولكنّه وعد بفعل كل ما
يستطيع والأمل هو الله.
معاناة لسنوات طويلة عاشها خليل في المستشفى، بدأت من استنقاذ أطرافه من البتر
أولاً، ثمّ البدء بعمليّات تجميليّة لوجهه وجسده ثانياً، فسرقت منه أيام طفولة كان
يرتع فيها في حقل والده الواسع الغافي تحت دفء الشمس، وهو الذي ملأ البيت بمشاغباته
وطرائفه، فهو الابن السابع بين إخوته الذين أغدقوا الدلال عليه، فإذا ما رجع إلى
البيت ليبدأ حياته الجديدة، التزم كلّ من والديه وإخوته بإرشادات الطبيب المعالج
ليساعدوه على الاندماج مجدّداً في محيطه ورفاقه، وكان ذلك صعباً في بداية الأمر،
ولكنّه استطاع ذلك بدعم من عائلته المحبّة.
* مشروعه بعيداً عن الدنيا
كان الألم ذخيرة روحيّة مدّت خليلاً بالكثير من القوّة والصبر والتجلّد، وهوّنت
الكثير من الأمور الصعبة التي صادفته في الحياة.
كان يحرصُ على اتخاذ القرار المناسب له بغضّ النظر عن رغبته، لجأ إلى الحقل ليساعد
والده قليلاً، هناك حيث التراب والسماء والهواء والطبيعة التي يعشق. ولكن حدّة
الشمس سرقت منه الاستئناس بحياة المزارع، فالحروق العميقة آلمته كثيراً، عندها
اقترحت والدته عليه أن يبدأ بالعمل في مهنة الألمنيوم مع أحد معارفهم وهذا ما فعله،
وسرعان ما استقلّ بورشته الخاصّة التي لو أولاها الأهميّة لأغدقت عليه الخيرات،
لكنّ خليلاً كان له مشروعه الخاص البعيد عن خيرات الدنيا.
* نِعم الوالد وأقرب صديق
بين والديه وإخوته المحبّين الذين حرصوا على إبقاء الألفة الجميلة للعائلة، وبقلبه
المطمئن والمسلّم لقضاء الله وقدره، طوى خليل أيّامه. كان يقصد المسجد القديم في
أوّل البلدة ويجلس هناك مختلياً أو مع بعض رفاقه، ويترك لأنسه الساكت أن يسافر به
إلى حيث يرتاح قلبه. روحيّة العبادة المميّزة التي حملها خليل، نقلها إلى ولده بعد
زواجه، وقد اتخذ من ابنه "محمّد جواد" رفيقاً له، حتى في خلواته، فكانا يتشاركان
الصلاة والدعاء.
كان من السهل على خليل الذي خبر الناس أن يختار منهم الأصدقاء، فامتلأت حياته
بالعمل وضجيج الرفاق الذين كانوا يجتمعون في الفسحة التي خصّصها أمام منزله
لاستقبالهم فيها، حيث كان كلّ همّه أن يكون الجميع مرتاحاً.
* مع تباشير النصر يعود
عندما أبلغ خليل والديه بأمر التحاقه بالمقاومة شكّل هذا صدمة كبيرة، ليس لأنهم
يعارضون هذا الخط، على العكس من ذلك، بل خوفاً من أثر مضاعفات الحروق بسبب طبيعة
العمل الجهادي. فكيف لمن مثل خليل أن يتحمّل حرارة الشمس، أو الزحف، أو القفز،
ولكنهما أقرّا بالأمر أمام إصراره وعزيمته، فلم يكن ليثنيه شيء عن ذلك.
وعلى الرغم من الألم الذي لا يعرفه بعد الله إلّا هو، مضى خليل في طريق الجهاد، ولم
يؤخّره شيء عن ذلك، فخضع للدورات العسكريّة، وشارك في المناورات الجهاديّة، وكان له
في حرب تموز سجلٌّ بطوليّ، إذ ما إن اندلعت الحرب حتى التحق بعمله، ولم يرجع منه
إلّا مع تباشير النصر. وقد فَقَدَ خليل ثلّة من رفاقه المقرّبين، منهم الشهيد أحمد
ابن الشهيد حسن جغبير، وأثناء المشاركة بدفنه رمى خليل في القبر بورقة كتب فيها ما
يختلج في قلبه، باثّاً فيها عذابات روحه بعد أن حُرم من الشهادة في هذه المعركة.
* الانتظار معبر اللقاء
لم يكن ليدرك خليل في تلك اللحظة أنّ الساعة التي أعدّه الله لها عظيمة الشأن جليلة
القدر، وأنّ لكلّ شهادة لذّتها ورونقها، وليس الانتظار سوى مرحلة احتراق يحتاج
المرء إليها، ليعبر منها رماداً إلى حيث يلقى الله، فكيف إذا ما كان هذا المكان
دفاعاً عن دين نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وابنة ابنته عليها السلام؟!
كان ذلك الشرفُ وساماً لا يضاهيه عزّ وفخار. لم يصدّق خليل عندما حمل سلاحه وانطلق
إلى ساحة الجهاد المقدَّس، وقد اختلجت بداخله مشاعر لم يستطع تفسيرها، ولكنّ شوقاً
متّقداً أحرق ما عجزت ألسنة النيران عن حرقه، وهو الصبرُ أمام ما يرغبُ وقد صار
نُصبَ عينيه.
كان ولده الثاني على وشك القدوم إلى الدنيا، واختار له اسم "علي أمير"، ما أثار
استغراب من حوله، خصوصاً وأنه غير مألوف، ولكن أمام إصراره الغريب رضي الجميع بذلك.
* رحيل مؤلم وقدوم مؤنس
عندما حان موعد الرحيل للالتحاق بمعركة ريف القصير، استوقفته زوجته وطلبت إليه أن
يؤجّل الأمر ريثما تلد طفلها، فأذعن بداية للأمر، ولكنّه لم يستطع المكوث أكثر من
أيام معدودات قبل أن يحزم حقيبته ويمضي، فالمعركة كانت في أوجها، ولا بدّ له من
المشاركة فيها.
أيّام قليلة يحسبها المحبّ دهراً لا ينتهي. استيقظت زوجة خليل ليلاً على آلام
المخاض، وانتظرت الصبح لتخبر أهل زوجها بذلك، ولكن رنين الهاتف الذي لم يهدأ من
اتصالات انهالت عليها لتسألها عن زوجها، جعلها تنسى آلام الولادة، لتحتار بكيفيّة
الاطمئنان على زوجها، ولكن سرعان ما وصل إليها خبر رحيله وكاد يخطف أنفاسها مع وجع
جاء على أثره في الليلة التالية "علي أمير".
هو رحيل مؤلم وقدوم مؤنس.. شهادة وحياة تلازما ليكتبا في هذا الزمن أن "هيهات
منّا الذلَّة".