آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
إنّ مناجاة الذاكرين هي من جملة المناجاة الخمس عشرة
للإمام السجّاد عليه السلام. يقول الإمام عليه السلام في المقطع الأول:
"إلهي لولا الواجب من قبول أمرك، لنزّهتك من ذكري إيّاك، على أنّ ذكري لك بقدري
لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتّى أجعل محلّاً لتقديسك، ومن أعظم النِّعَم
علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك".
* ثمرة المعرفة
يشتمل ذكر الله تعالى على الذكر اللفظيّ، والذكر القلبيّ. وكلاهما، يؤدّي إلى
المزيد من معرفة الله تعالى. وإذا أردنا إحياء ذكر الله في قلوبنا حقيقة، والالتفات
إلى معناه الواقعيّ، يجب علينا زيادة معرفتنا بالله تعالى، ويجب علينا الحؤول دون
ما يلوّث أذهاننا وألسنتنا، والابتعاد عن الكثير من الرذائل الأخلاقيّة، وبالأخصّ
اللسانيّة، لنتمكّن من القرب إلى الله.
* الذكر تعلُّق في القلب
لا بدّ من تقديم بعض النقاط ذات الصلة بموضوع ذكر الله:
أوّلاً، إنّ الذي يتبادر إلى أذهان عموم الناس من الذكر، هو الأذكار
اللفظيّة مثل: "الله أكبر، لا إله إلّا الله"... وغير ذلك من الأذكار اللفظيّة.
لكن، وكما يستفاد من القرآن الكريم والمناجاة والأدعية، فإنّ ذكر الله أوسع من
الذكر اللفظيّ حيث يتضمّن الذكر القلبيّ أيضاً؛ فأصل الذكر يرتبط بالقلب. إنّ ذكر
شخص ما لا يعني أن يجري اسمه على ألسنتنا؛ بل أن تتوجّه قلوبنا إليه. وأمّا قيمة
الذكر اللفظيّ فهي لأنّه يعبّر عن الذكر القلبيّ وإنّ حقيقة الذكر تتعلّق بالقلب.
من هنا، يقول الله تعالى:
﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ
تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 205).
* الذكر يتناسب والمعرفة
ثانياً، عندما يذكر الإنسان الله تعالى، ومن جملة ذلك ذكره له بالقلب،
يتوجّه إلى الأسماء والصفات والأفعال الإلهيّة. عند ذلك، يرتسم مفهوم هذه الصفات في
ذهنه، فيشير بواسطة هذا المفهوم إلى موجود يحمل تلك الصفات. وبعبارة أخرى: الذكر
تابع لمعرفة الإنسان، ومناسب للمعرفة التي يحملها الإنسان عن الله تعالى.
توضيح ذلك، أنّ الإنسان قد تربطه علاقة قويّة لسنوات طويلة مع شخص ما، أستاذه
مثلاً، وعندما يرحل الأستاذ عن الدنيا، يبقى الشخص ذاكراً له، ويصبح متعلّقاً به.
طبعاً هذا الذكر يتناسب من حيث السعة والقيمة والعمق مع المعرفة التي يحملها عن
أستاذه. هذا الذكر يختلف عن ذكره للشخص الذي لم يدركه بشكل حضوريّ، بل سمع عن
خصائصه فقط حيث يذكره بناءً على المعرفة الضعيفة به. وعلى هذا الأساس، وبما أنّ ذكر
الله شعاع من معرفة الإنسان بالله، وبما أنّ معرفة الأشخاص بالله ذات مراتب
متعدّدة، فإذا كان ذكر الله ليس مجرّد لقلقة لسان، بل كان يخرج من صميم القلب،
فإنّه تابع لمعرفة الإنسان بالله من حيث القيمة والمرتبة. وعليه، كلما كانت معرفة
الإنسان بالله وأسمائه وصفاته أكثر عمقاً وشمولاً، كان ذكره لله أعمق وأشمل أيضاً.
* عظمة ذكر الله وعجز الإنسان عن الإتيان به
ثالثاً، عندما يكون هذا هو المحور والموضوع الأساس لهذه المناجاة الشريفة،
فهو يدفعنا للالتفات إلى عجزنا عن الإتيان بحقّ الذكر. ولو لم يأمر الله تعالى
بذكره لكنّا نزّهناه عن ذلك؛ لأنّ ذكرنا هو في حدود سعتنا الوجوديّة والمعرفيّة
وكلّما كانت سعتنا الوجوديّة والمعرفيّة أوسع، يصبح ذكرنا لله أعمق وذا قيمة.
على كل حال، بما أنّ وجودنا محدود وضعيف وفقير، فإنّ ذكرنا المناسب لوجودنا
المحدود، لا يليق بشأن الله ولا يتناسب معه وهو اللامتناهي واللامحدود. ولو فرضنا
ازدياد استعدادنا ومعرفتنا وكان ذكرنا متناسباً مع هذا الازدياد، إلّا أننا لا نزال
محدودين بحيث لا تتناسب معرفتنا مع الشأن والمنزلة الإلهيّة اللامتناهية. لا يمكن
المقارنة بين المحدود وغير المحدود وبالتالي إيجاد نسبة بينهما. نحن، المحدودين، لا
يمكننا أن نأتي بحقّ ذكر الله وهو غير المحدود.
وعلى هذا الأساس، وبما أنّ الله تعالى قد أمر، وطاعة أمر الله واجبة، لذلك يجب
الإتيان بذكره في حدود استعدادنا وفهمنا المحدود مع اعترافنا بأنّ ذكرنا لا يليق
بشأن الله تعالى اللامحدود. ومع كلّ ذلك، فإنّ من أعظم الألطاف الإلهيّة علينا ومن
جملة نعمه علينا أن سمح لنا بذكره.
* "أنا جليس مَن ذكرني"
ثمّة العديد من الروايات حول فضيلة ذكر الله وقيمته. بعض هذه الروايات يحتوي على
مضامين عجيبة تحكي عن أهميّة ذكر الله وعظَمته. من جملة الروايات، سؤال النبي موسى
عليه السلام لله تعالى: "يا ربّ أقريب أنت منّي فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى
الله عزَّ وجلَّ إليه: يا موسى، أنا جليس من ذكرني"(1).
إنّ مجالسة الشخصيّات العظيمة من جملة أمانينا الكبيرة، وكلّما كان الشخص الذي نرغب
في مجالسته صاحب شأن، وموقع عالٍ فإننا نعمل، بشكل كبير، للقائه ونستعدّ لذلك ونصاب
بالغرور. ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ الأنبياء والأولياء، والشخصيّات العظيمة
التي نتمنّى لقاءها، جميعهم عباد الله، وكلّ ما لديهم هو من الله تعالى بحيث لا يصل
شأنهم ومقامهم إلى شأن الله تعالى ومقامه. لذلك، كان لقاء الله أكبر فخر، وأكبر
موهبة إلهيّة لا تصل إليه أيّ نعمة على الإطلاق.
* "يا موجود مَن طلبه"
جاء مضمون العبارة "أنا جليس من ذكرني" في الكثير من الروايات. وقد ذكر
المضمون عينه في الدعاء بعد زيارة الإمام الرضا عليه السلام: "يا جليس الذاكرين"
ثم جاء المضمون عينه بعبارة "يا موجود من طلبه"، وهي جميعها عبارات خاصّة لم تشاهد
في الأدعية والروايات الأخرى.
تتحدّث العبارات المتقدّمة عن حقيقةٍ وهي أنّه لا يمكن لمن ذكر الله وطلبه أن لا
يأتي إليه. طبعاً، بما أننا فاقدون لعين البصيرة، لا نرى الله إلى جانبنا ونظنّ أنه
لا يهتمّ بنا، ولا يعتني بنا إذا طلبناه.
* لو كنّا ندرك، لاشتغلنا بذكر الله
لو كنّا نعرف أهميّة مجالسة الله، ولو كنّا ندرك عظمة هكذا فخر، لكان من المناسب
لنا عدم الإتيان بغير الأمور الضروريّة في الحياة وعدم الإتيان بما نحن مكلّفون
وملتزمون به، ولتركنا كافّة الأعمال واشتغلنا بذكر الله. لكن، وللأسف، البعض لا
يذكر الله، بل لا يلتذّ بمجالسته ولا يميل إليه ولا يرغب فيه ويشعر بالتعب من ذكره.
وقد يصل البعض إلى مستوى من التعاسة والشقاء فيكره ذكر الله ويبتعد عنه، يقول الله
تعالى:
﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (الزمر: 45).
1- الكافي، الكليني، ج2، ص496.