مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

سيّد القلوب


الشيخ محمد باقر كجك


لا يمكن أن تكون السَّماء صافيةً أكثر من صفائها في هذا اليوم. الغبار الذي يتصاعد من أثر سير القافلة، يبدّدُه هواءُ الحريّة الذي نتنفسه. الرحيل عن قريش، وأصنامها الكبرى كأبي لهب وأبي سفيان، رحيلٌ يعزّز في الرُّوح رائحة الحبِّ لله، وعطر التَّوحيد.

ها هي يثرب، مدينة النخيل، وبيوت الطّين الهادئة، ترسل من بعيدٍ علامات التواضع. للتواضع علامات تظهر في الجسد والهواء والتراب. قريشٌ المتكبّرة، استنفدت كلَّ علامات التكبّر في الكون، وضيّقت الخناق علينا. وأمّا يثرب، يثربُ الفقراء والمستضعفين، وفلاحي الأرض، فتفتحُ ذراعيها بحبّ، وإنِّي لأسمع صوتَ زغاريد الاستقبال على بُعد خمسةِ أميال. الصَّحراء بارعةٌ في نقلِ رسائلِ المحبّين!

*النُّور من النُّور
صحيحٌ أنّي لم أكن وقت وُلد محمَّد. لكن نقلت لي عجائز حيّنا، قصّة ولادة النُّور. قالت لي إحداهنّ: كان عبد الله أمنية كلّ فتاة! أجمل الرجال وأنبلهم. وكان على جبينه نورٌ أجمل من كلّ حكايا الحبّ. لم تفلح محاولاتنا لجذبه. لم ينفع أيّ عطر لشدِّه. وأخذت آمنة بنت وهب بقلبه. كان عرسها فرحةً طافت حول البيت العتيق!

وأذكر أنَّ عبد المطَّلب كان يحيط عبد الله بالحبّ، بعناية الأمهات، كان يرى فيه ما لا يراه في غيره من أولاده، بعدما ذبح عنه مائة ناقة، مائة ناقة أشبعت بطون القرشيين، وفتّحت عيون الحسد على عبد الله.

*في محفل الحسد
ثم، انتهك الليل حرمة الحياة، ومات عبد الله في ريعان شبابه. اتّهم بعضهم القدر، وبعضهم أياديَ زرقاء يحرّكها حسدٌ من نور عبد الله. وكان عبد الله قد نقل نور وجهه إلى جنينٍ سماويّ ينبض في روح آمنة.

في تلك الليلة العجيبة، تحركت تقاسيم الكون، وتغيّرت طباع النّجوم. كانت هناك ريح سوداء تصرخ في وادٍ قريب من مكة، واجتمعت الشياطين في محفلِ الحسد، قال لهم الشيطان: "الآن! وقد ولد هذا الموعود، فالسماء ممنوعة علينا! حُتّمت علينا معركة نهائية معه ومع أحبّائه".

تنادت الشّياطين من كل مكان، وزعق عفريت من بينهم: "كيف نقتل محمّداً؟ كيف نخنق الحرية في حناجر أتباعه!؟".

"اخنقوا الحبّ.. امسخوا قلوبَ النّاس بالحسد"... تبسّم الشيطان.

*في البادية
تقول العجائز في بلادنا، إنّ عبد المطَّلب قرَّر في صبيحة يومٍ، أنْ يجعل لهذا النُّور في وجه محمّد درعاً. قال في نفسه: الرَّجل يحتاجُ، مضافاً إلى الحبِّ، ساعداً قويّاً، ورئة قويّة، ولساناً جميلاً.
هكذا انتقل محمّد إلى البادية، إلى يدين نقيّتين كنقاء الهواء في البادية، يدي حليمة السّعدية، وبين فتية أشدّاء كشدّة كثبان الرّمل مع لينها. لحليمة السعدية وجهُ ملاك، وقلب إنسان، وخدّ وردة.

تروي إحداهنّ، كانت تعمل خبّازة في حيّ بني سعد: "اشتقنا لرائحة الخبز منذ سنة. الأمطار أصيبت بالبخل، والأرض تقشَّفت علينا بالزّرع. ثمَّ جاء فتى كالنُّور، فحلّ الربيع علينا دفعةً واحدةً! أكلنا خبزاً حتّى شبعنا!".
ثمَّ  ذاع صيتُ هذا الربيع. ذاعَ بشكلٍ مقلقٍ جدّاً. واشتغلت الشياطين مجدّداً. هناك من يبحثُ عن محمّدٍ لكي يقتله بالحسد.

حضنته آمنةُ بقوّة. قبّلت جبينه وعصرت على خدّيه بقايا الرّوح. قالت له: أنت محمّد! ستكون نوراً للنَّاس. أنت محمّد! لقد رأيتك البارحة وأنت تنظر إلى الأصنام.. نظرتك مختلفةٌ جداً. نظرتك كأبيك عبد الله، كجدّك إبراهيم، ستلحقك النماردة أينما ذهبتَ. لكن، لن تضرَّك نار الحسد والكره يا محمّد. أنت نور محض.

ثمّ، تركها محمَّدٌ في منطقة الأبواء. سوّى تراب قبرها. بكى عندها بكاءً حزيناً عليها.

*الشمس تشرق في الغار
النهار طويل جداً، والشمس الحارقة تغدق على الصحراء الواسعة دفقاتٍ من الحميم: مكّة تغلي، والطيور التي لم تحتمل الجوع آثرت الطيران بين الأودية لعلّها تجد فريسة صغيرة وتائهة.

تقول عجوز عتيقة في سرد الحكايا:
"كان يحمل فوق ظهره جراباً متوسّط الحجم والثقل، وفي الكيس طعام ومؤن، ومن ينظر إليه من البعيد يتعجّب من قدرة الفتى على حمل هذه الأثقال، لكنه لم يكن يفكر في الثقل أبداً، ولم يكن يفكر أين يضع قدمه بين الصخور السوداء التي تفتح أسناناً من السكاكين، كلّ همّه كان في أن يصل إلى الجبل قبل مغيب الشمس، وأن يدخل إلى الغار وهو يشاهد ظلال الجبال المحيطة بمكّة يأكلها الليل".

مسح عرقه عن جبينه، وما أن رفع رأسه حتّى علَت وجهه ابتسامة واسعة، فها هو صاحبه يقف أمام الغار، ويداه مبسوطتان في الهواء وكأنه يعانق النسيم، أو يستقبل الأحلام! تعانقا بقوّة، بشوق كبير، مع أنّ الفتى يصغره بثلاثين سنة، إلّا أنّ الحبّ أقوى من كلّ الأشياء.

وضع جراب الطعام على الأرض، وما لبث أن جاء عدد من المساكين الهاربين من الظُّلم في الأودية والبطاح فأعطى لكلّ واحد منهم مقداراً وبقي معه الشيء القليل.
نظر الفتى في وجهه، فلقد ازداد النور في جبينه، وعلا الضياء وجهه، فلكأنّه قطعة من الشمس، وقلبه يحدّثه أنّ هذه الليلة ستكون ليلة ذات شأن.

*وفي ليلة القدر نزل القرآن
حلّ الليل سريعاً. كان الفتى يستمع لصاحبه وهو يشرح له عن الخالق الذي خلق الكون، خلق كلّ ما تحت ذلك الجبل من بشر وحجر، واستمع إليه وهو يتألم من نكران الناس للخالق..

اشتدّ البرد ليلاً، وساد ظلامٌ كثيف متواصل، وكان الفتى ينام على الأرض متأمّلاً صاحبه الذي وقف ينظر من فتحة صغيرة في الجدار ويظهر منها إلى "الكعبة المشرّفة" من بعيد. وفجأة، ومن دون سابق إنذار، توهّج الغار بالنور، وفاح عطرٌ زكيّ قويّ يخرق الأرواح، لم يرَ الفتى شيئاً، بل سمع صوتاً هائلاً ينادي صاحبه يقرأ له القرآن!

ثم ذهب الصوت، ونظر الفتى عليّ فوجد النبيّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم يشعّ وجهه بالنور، وكأنّ الشمس أشرقت في الغار!
لقد نزل القرآن في ليلة القدر، وكان النبيّ محمّد في تلك الليلة يتبسّم في وجه عليّ وينظران بثقة إلى المستقبل.

*قريش تشحذ السيوف
وقالت عجوز محنّكة:
"سرى في أصنام قريش، ذلك الشعور القاتل الذي سرى في نمرود، الحسد، الكره. قال كبيرهم: محمّد هذا، يعرف كيف يدخل إلى قلوب الناس ويشدّها إلى الله. وأمّا نحن فنمسك على بطونهم ونشدُّهم إلى الله. فرقٌ كبيرٌ جداً. من الممكن أن يتحمَّل أحدٌ وجع البطن إذا كان قلبه مليئاً بالحبّ. أمَّا نحن، فلا نجعل في قلوبهم شيئاً إلّا الخوف من "هُبَل"!

كان محمّد يسير في الطُّرقات، وحبّ الله معه. إذا دخل منزل فقير أو مريض أو أمسك بيد مسكين، كان يضع شيئاً من حبّ الله في قلوب الذين معه. وشيئاً فشيئاً كان "هُبَل" يوحي إلى زعماء قريش بالحسد والكراهية.

كلّ أصنام مكّة تعلمُ، أنّ محمّداً لا يستعمل السحر، ولا يأكل القرابين، ولا يلعب على العقول بالشعر والكهانة... تماماً كما عرف السحرة سرّ عصا موسى. ستنقلب الأمور بسرعة على رؤوس الجميع في مكّة. وسيكون لمحمّد أتباع كثر وسط الذين لا مكان لهم في مكّة، وسط المستضعفين الصائمين أغلب أوقات الليل والنهار، وسط الجائعين والعراة.

في تلك الليلة، ترك محمّدٌ رداء الحذر، لقد توفّي أبو طالب وخديجة. وصارت مكّة خالية القلب. لا قلب فيها. القلب هو الطريق الأسرع للنجاح.
واجتمعت سيوف لا تعرف الرحمة. شحذها الحسد طويلاً فأصبحت قاتلة.. وطرقها الحدّادون بكُرهٍ أسود فأصبحت مرنة بقسوة ولؤم.

حينها... هَامَ محمّد ومن معه مِنَ الذين لم يحترقوا بنار نماردة قريش.. إلى يثرب".

*يثرب الحبّ
وها أنا إلى جانب محمّد. اقتربت القافلة من يثرب. يثرب عن قريب أجمل وأكثر اخضراراً. تبسّمتُ وقلتُ: لِمَ لا؟ سيكثر اللون الأخضر هنا عمّا قريب! كما اخضرّت البادية في صغره.
سيجد هنا ألف قلب مستعد للحبّ. ستهرب الأصنام من يثرب، لأنّ يثرب شربت حبّ محمّد.

محمّد نورٌ. محمّد قمر.. بدرٌ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع