نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

شكر النعمة وكفرانها

آية الله مشكيني


 ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ  (لقمان/12).
في الحلقة السابقة أشرنا في سياق تفسير هذه الآية الكريمة إلى بعض مضامينها. مثل: لقمان، الحكمة. وفي هذه الحلقة نتابع تفسير ما تبقى من موضوعاتها.

* الشكر:
الشكر إظهار النعمة، وبتعبير آخر هو إظهار الثناء على لإنسان أو غيره لإحسان أو نعمة. في لغة العرب يطلقون "شجرة شكور" على الشجرة التي تكبر وتنمو وتعطي الثمار بعد أن يؤمَّن لها الماء والغذاء (السماد) المناسب. والمراد من كون الشجرة شكوراً أنها أظهرت آثار تغذيتها من خلال الثمر.

إذاً شكر النعمة هو إبراز آثار تلك النعمة عملياً. وعلى هذا فلو أراد الإنسان أن يشكر الله تعالى على النعم الإلهية المتنوعة والكثيرة جداً، هذا الشكر يجب أن يكون من خلال العمل، ومن هنا فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: شكر المؤمن يظهر في عمله.

* تناسب الشكر والنعمة:

لا شك في أن شكر كل نعمة يجب أن يكون متناسباً مع تلك النعمة. فلو كانت تلك النعمة من قبيل العلم والمعرفة، فالشكر ينبغي أن يكون بنحو أن يظهر عليه أثر ذلك العلم أولاً، ثم أن يظهر أثره في المجتمع. بمعنى أنه يجب عليه أن يعمل بمقتضى علمه ويحصل التقوى (ليستفيد منه شخصياً)، ثم ينشر آثار وبركات ذلك العلم في المجتمع أيضاً، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الشأن: "شكر العالم على علمه عمله وبذله لمستحقيه". عندما يعمل العالم بعلمه، فمن المحتمل أن ينقذ مجتمعاً كاملاً من السقوط في بعض الأحيان. وهذا بنفسه من أكبر أنواع شكر نعمة العلم.

إن الله تعالى يعطي في هذه الآية الكريمة أمراً إلى لقمان:  ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أعمل بمقتضى الحكمة التي أعطاك إياها الله تعالى، واعمل أيضاً أن يستفيد الآخرون من هذه النعمة وأن تكون أعمالهم موافقة للحكمة، وفي الآيات التالية يذكر القرآن بعض الكلمات والمواعظ الحكيمة إشارة إلى أن لقمان (عليه السلام) أدى شكر هذه النعمة عملياً.

* النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإصلاح المجتمع:
عندما بعث نبي الإسلام الكريم في جزيرة العرب كان الفساد والظلم مترسِّخاً ومستشرياً في جميع الأبعاد المادية والمعنوية لذلك المجتمع. وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من علم وحكمة جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلح هذا المجتمع ويقتلع منه الفساد ويعلمهم القرآن والحكمة كما جاء في الآية الثانية من سورة الجمعة، قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾.

وهذا العمل بذاته أفضل الشكر للنعمة الإلهية، أن يعمل ويوفَّق إلى هذا الحد في إصلاح المجتمع، وكان عندما يُسأل حول كثرة عبادته وتهجده وعن سبب ذلك وقدغفر له، كان يقول: ﴿أفلا أكون عبداً شكوراً. والشكر هو صدى النعمة في عمل الإنسان. فالطبيب يمكن أن يطيّب ويعالج المرضى على نحوين: تارة يكون هدفه الرئيسي من دراسة الطب وممارسة هذه المهنة هو جمع المال وتكديس الثروة. فهو لا يعالج المريض إلا بعد تأمين المال، والفقير الذي لا مال لديه يغض الطرف عن معالجته مما قد يسبب في إزهاق روحه في بعض الأحيان. هكذا طبيب مشمول بدون شك بقوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. وتارة أخرى يكون هدفه الرئيسي هو إنقاذ الأرواح وتخفيف آلام المرضى ومعالجتهم، هكذا طبيب عندما يواجه مريضاً يقوم فوراً بمعالجته حتى وإن لم يستطع تأمين المال الكافي. وهذا العمل نفسه هو أداء لشكر نعمة العلم الذي وهبه إياه الله تعالى، بخلاف من يكون همه جمع المال فهو في موقع كفران النعمة.

* نتيجة كفران النعمة:
عندما تكون المصالح المادية والشخصية هي محور النشاطات الفردية والاجتماعية التي يقوم بها الإنسان، فمن الطبيعي أنه ليس فقط أن هذا الإنسان لا يقوم بما ينفع المجتمع وأنه لا يقدم خدمات للمجتمع، بل نراه في أكثر الأحيان يضع الموانع والسدود أمام مصالح المجتمع، ويخالف الأشخاص الذين يحملون رسالات وشرائع إصلاحية للمجتمعات البشرية. يذكر القرآن نموذجاً من هذا النوع من البشر فيقول:  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ . وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (سبأ/34، 35). ثم في سورة الإسراء، ولكي يعتبر الآخرون ويتعرفوا إلى نتيجة كفران النعمة هذه، يقول تعالى:  ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا  (الإسراء/16).
تجدر الإشارة هنا إلى أن المراد من القرية في القرآن هو المجتمع لا كما هو متداول في العرف، والفسق عبارة عن الخروج عن الطاعة والعبودية لله تعالى وهو نموذج واضح لكفران النعمة الإلهية.

على كل حال على الإنسان أن يحاسب نفسه دائماً، هل هو شاكر للنعم الإلهية أم لا؟ كل عضو من أعاء الإنسان له شكر خاص. مثلاً لسان الإنسان، فإذا كان ما ينطق به لجهة مصالح المجتمع فقد أدى شكر نعمة اللسان، وإذا استعمله للتخريب والإفساد فهذا كفران للنعمة، على الإنسان أن يتدبر دائماً: هل أنه يستعمل جميع قواه الفكرية والجسمية في خدمة المصالح الشخصية، أم لمصلحة الإسلام والمجتمع، وهل المال والثروة التي يجمعها يصرفها على نفسه وحاشيته فقط، أم أنه يساعد الآخرين ويقدم لهم العون والمساعدة؟

خلاصة الكلام أن الإنسان إذا كان متمحوراً حول ذاته ويريد كل شيء لشخصه فهو كافر للنعمة وليس بشاكرٍ لها.

* السنة الحسنة والسنة السيئة:
الآثار الناتجة عن أعمال الخير ليست واحدة في كل الأحوال. فهناك بعض الأعمال تبقى آثارها حتى بعد موت فاعلها. مثلاً بناء مستشفى، فالإنسان الذي يقوم ببناء مستشفى لمعالجة المرضى، فإن هذا المستشفى يؤدي الخدمات الطبية للمجتمع، حتى وإن كان بعد موت صاحبه بسنين متطاولة، وفي المقابل إقامة مركز للفساد سوف تكون له الآثار السلبية ما دام هذا المركز قائماً. وعلى كل حال، فالأول يستمر شكره للنعم الإلهية ويبقى ببقاء عمله ولا ينتهي بموته، كما أن الثاني يبقى كفرانه كذلك.
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "من سنّ سنة حسنة فله أجر من عمل بها، ومن سنَّ سخنَّة سيئة فله (وزر) من عمل بها".

ومن هنا، فالمعلم الذي يقوم بتدريس طلاب وتعليمهم العلوم المختلفة إذا دفع بهؤلاء الطلاب وحثّهم للتحلي بالأخلاق الفاضلة والقيام بالأعمال النافعة للمجتمع، فهو فضلاً عن كونه أدى شكر النعمة، فإن أجر كل عمل يقوم به الطلاب سوف يكون شريكاً فيه دون أن ينقص من أجرهم شيئاً. كما أنه لو كان سبباً في فسادهم وتشجيعهم نحو الفساد والعبث فإنه شريك في تحمل أوزارهم وسيئات أعمالهم.
وهكذا يتضح معنى قوله تعالى:  ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد .

* الغني والحميد:
في آخر الآية الكريمة يطالعنا اسمان مباركان من أسماء الحق تعالى وهما:
1- الغني: بمعنى أن الله تعالى لا يحتاج إلى جميع الموجودات وما يصدر عنها من أعمال وآثار وجودية. نحن نردد في صلواتنا اليومية عدة مرات كلمة "الله الصمد" وهي تعني أن الله تعالى غني غير محتاج. وغنى الله سبحانه غنى ذاتي وصفاتي وأفعالي.

2- الحميد: وهو أن كل صفة محمودة ومستحسنة ولها وجود كمالي حقيقي فهو تعالى يتصف بها. فالحميد هو الذي يتصف بكل الصفات الم حمودة والحسنة. في التسبيحات الأربعة نقرأ: "سبحان الله والحمد لله" وهي تعني أن الله تعالى مبرأ عن كل عيب وله جميع الكمالات دون سواه. في علم الأخلاق التخلية أيضاً قبل التحلية، نحن أولاً ننزه الله تعالى عن صفات النقص ثم نثبت له صفات الكمال. فإذا أردنا أن نتصف بالصفات الحميدة، فجيب علينا أولاً أن ندع رذائل الأخلاق ونتخلص منها، ثم نحاول اكتساب الأخلاق الكريمة والفاضلة. فقبل أن نقوم بتزيين الغرفة لا بد أولاً من إزالة الغبار والأوساخ منها. وما لم يتخلص الإنسان من التكبر والحرص والبخل وسائر الصفات الرذيلة لا يمكن له أن يتحلى بمكارم الأخلاق. إذا فـ"الحميد" هو المنزَّه عن كل عيب وواجد جميع صفات الكمال.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع